- يندر في ميدان الفكر العالمي، أن تجتمع العبقرية النظرية التي تبلغ بصاحبها ذروة المجد الأكاديمي ممثلاً في جائزة نوبل، مع براعة وجرأة فكرية تجعله فارسًا في حلبة الحوار العام.
- لكن بول كروجمان هو تلك القامة الاستثنائية؛ فهو ليس مجرد اقتصاديٍ نال أرفع الأوسمة، بل مثقفٌ عام، وكاتب عمود مؤثر، وصوت ليبرالي لا يخشى خوض المعارك الفكرية على صفحات نيويورك تايمز.
- إنه الرجل الذي أعاد صياغة فهمنا لقواعد التجارة الدولية والجغرافيا الاقتصادية، تاركًا بصمة لا تُمحى رسمت ملامح السياسات الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.
ثورة نوبل: كيف زلزل كروجمان أسس فهمنا للتجارة؟
- في عام 2008، اعتلى بول كروجمان منصة نوبل وحيدًا، لا ليقتسم الجائزة، بل ليتفرد بها تتويجًا لتحليله لأنماط التجارة وموقع النشاط الاقتصادي.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- كان هذا التكريم تتويجًا لورقة بحثية كتبها في ريعان شبابه عام 1979، وهي ورقة أحدثت ما يشبه ثورة هادئة زلزلت أركان النظرية الاقتصادية التقليدية.
- استقرت النظريات الكلاسيكية -قبل كروجمان- على تفسير التجارة الدولية من منظور "الميزة النسبية"؛ أي أن الدول تتاجر لتبادل سلعًا مختلفة جوهريًا (كأن تبيع دولة زراعية القمح لدولة صناعية تبيعها الآلات).
- لكن ظل هذا التفسير عاجزًا أمام لغز محيّر: لماذا تنخرط الدول الصناعية المتقدمة، كألمانيا والولايات المتحدة، في تجارة محتدمة لمنتجات متشابهة كالسيارات؟
- هنا تجلت عبقرية كروجمان، الذي قدم إجابة بسيطة في شكلها، عميقة في مضمونها، عبر ما يُعرف بـ "نظرية التجارة الجديدة". لقد أدرك ببراعة عاملين أغفلتهما النماذج القديمة:
1- شغف المستهلكين بالتنوع: فقد يرغب المواطن الألماني في شراء سيارة "فورد" الأمريكية، بينما يميل الأمريكي إلى اقتناء سيارة "بي إم دبليو" الألمانية.
2- سعي الشركات لوفورات الحجم: فالإنتاج بكميات كبيرة يخفض تكلفة الوحدة، مما يدفع الشركات إلى التخصص والإنتاج بما يفوق طاقة أسواقها المحلية، ومن ثم تصدير الفائض لغزو أسواق جديدة.
- وبهذا المنطق الثوري، لم تعد التجارة لعبة صفرية، بل تحولت إلى آلية تمنح المستهلكين خيارات لا حصر لها، وتفتح أمام الشركات آفاقًا عالمية أرحب.
- ولم تتوقف عبقرية كروجمان عند هذا الحد، بل طوّر نظريته إلى ما أسماه بـ "الجغرافيا الاقتصادية الجديدة"، التي فسرت ببراعة لماذا تتمركز الصناعات ورؤوس الأموال والقوى العاملة في بؤر جغرافية معينة (مثل وادي السيليكون)، بدلاً من الانتشار المتساوي عبر العالم، مقدمًا بذلك فهمًا جديدًا كليًا لديناميكيات العولمة والنمو الإقليمي.
من الصروح الأكاديمية إلى الساحة العامة: صوت ليبرالي في نيويورك
- يظل أحد أبرز إنجازات كروجمان، على الرغم من إسهاماته الأكاديمية البارزة، هو قدرته الفذة على تبسيط أعقد النظريات وتقديمها وجبة سائغة للقارئ العادي.
- فمنذ مطلع الألفية، تحول عموده في صحيفة نيويورك تايمز ومدونته الشهيرة "ضمير ليبرالي" إلى منصة فكرية مؤثرة يتابعها الملايين.
- يتميز أسلوبه بمزيج فريد يجمع بين التألق التحليلي والبراعة البلاغية، بما يذكرنا بعمالقة الفكر الاقتصادي أمثال جون ماينارد كينز وميلتون فريدمان.
- غير أن هذا الدور لم يأتِ بلا ثمن؛ ففي خضم الاستقطاب السياسي الحاد، انتقل كروجمان من موقع الأكاديمي المحايد إلى دور المثقف الليبرالي الصريح، الذي لم يتورع عن توجيه سهام نقده الحادة واللاذعة لخصومه المحافظين، الأمر الذي جرّ عليه اتهامات بشيطنة الخصوم وتجاوز حدود التحليل الموضوعي.
كينزي في زمن العواصف: روشتة كروجمان لإنقاذ الاقتصاد المتعثر
- مع اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، برز كروجمان كأحد أشرس المدافعين عن ضرورة العودة إلى الفكر الكينزي.
- حذر مرارًا من الوقوع في "مصائد السيولة" – تلك الحالة التي تعجز فيها السياسة النقدية عن إنعاش الاقتصاد – مستلهمًا العبرة من تجربة "العقد الضائع" في اليابان.
- تتلخص "روشتته" الاقتصادية في حتمية تدخل الدولة بقوة لانتشال الاقتصاد من حالة الركود، عبر أداتَيْـن رئيسيتَيْـن: سياسة نقدية جريئة تستهدف رفع معدلات التضخم، وسياسة مالية هجومية عبر زيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الطلب الكلي.
- وفي هذا السياق، أطلق مقولته الشهيرة عام 2016: "تؤكد كل التجارب الحديثة أن العالم في أمسّ الحاجة إلى توسع مالي لإنعاش الطلب، وأن اعتمادنا الأوحد على البنوك المركزية لم يعد يجدي نفعًا".
مسيرة استثنائية: من قلاع "ييل" و"برينستون" إلى أروقة البيت الأبيض
- تبدو مسيرة كروجمان الأكاديمية أشبه برحلة مهيبة بين قلاع الفكر العالمي؛ فقد نال درجة البكالوريوس من جامعة ييل المرموقة، والدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم تنقل أستاذًا بين كل من ييل وستانفورد وبرينستون وكلية لندن للاقتصاد، قبل أن يحط رحاله أستاذًا متميزًا في جامعة مدينة نيويورك.
- لم يكن كروجمان حبيس برجه العاجي الأكاديمي، بل كان دائمًا على مقربة من دوائر صنع القرار؛ إذ عمل لعام كامل ضمن مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، كما قدم مشورته لمؤسسات دولية عريقة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة.
إرثٌ يتجدد
- في المحصلة، يظل بول كروجمان شخصية فريدة ومتعددة الأبعاد: فهو المنظّر الفذ الذي أعاد صياغة فرعين أساسيين في علم الاقتصاد، والمثقف الموسوعي الذي جعل من الاقتصاد مادة حية ومفهومة للمجتمع، والمناضل الفكري الذي لم يتردد في تسخير علمه كأداة للتأثير وصناعة الرأي.
- جسّد صورة الاقتصادي الجديد الذي لا ينعزل في عالم المعادلات والرسوم البيانية، بل يشتبك مع واقعه، يحلل، وينتقد، ويقترح، تاركًا وراءه إرثًا من الفكر النقدي الجريء الذي سيظل منارة تضيء دروب الباحثين وصنّاع السياسات لأجيال قادمة.
المصدر: إنفستوبيديا
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.