لم يعد الاستثمار السلبي، الذي يشير إلى شراء صناديق تتبع مؤشرات السوق بدلاً من اختيار الأسهم الفردية، مجرد استراتيجية هامشية، بل أصبح قوة رئيسية في أسواق المال العالمية.
فخلال العقدين الماضيين، اجتذبت الصناديق المتداولة وصناديق المؤشرات تدفقات مالية هائلة بفضل رسومها المنخفضة، وبساطتها، ونتائجها المستقرة على المدى الطويل.
ويعدّ كتاب "قوة الاستثمار السلبي" (The Power of Passive Investing) للكاتب "ريتشارد فيري" أحد أبرز المراجع التي تناولت التحوّل في الفكر الاستثماري الحديث نحو الصناديق المؤشّرة ومنتجات الأسهم المتداولة منخفضة التكلفة.
ويستعرض المؤلف بأسلوب تحليلي مدعوم بالأرقام والبحوث الأكاديمية الأسباب التي تجعل من الاستثمار السلبي استراتيجية أكثر فعالية واستدامة من الأساليب النشطة التقليدية التي تعتمد على اختيار الأسهم ومحاولة توقيت السوق.
ويقدّم للكتاب "جون بوجل"، مؤسس مجموعة فانجارد وأحد روّاد فكرة صناديق المؤشرات، حيث يؤكد فيها أن الاستثمار السلبي لا يوفّر فقط تكاليف أقل، بل يعزز أيضًا فرص تحقيق عوائد مستقرة على المدى الطويل بفضل تنويع الأصول وتقليل التدخل البشري.
لكن هذا التحول لا يخلو من التبعات؛ فهو من جهة يعزز الكفاءة ويخفض التكاليف، ومن جهة أخرى يثير تساؤلات حول تركّز الملكية، وضعف اكتشاف الأسعار، وتراجع الحافز على البحث النشط.
حجم الاستثمار السلبي
التحول نحو الاستثمار السلبي ليس مجرد اتجاه، بل حقيقة رقمية موثقة، فقد تجاوزت حصة الصناديق السلبية في الولايات المتحدة نصف إجمالي الأصول المدارة في صناديق الاستثمار المشتركة والصناديق المتداولة.
وتشير تقارير عام 2024 إلى استمرار الزيادة في هذه الحصة، مع تسجيل تدفقات مالية ضخمة إلى الصناديق السلبية بمئات المليارات من الدولارات، في حين واصلت الصناديق النشطة تسجيل تدفقات خارجة.
وبلغ إجمالي أصول صناديق المؤشرات وصناديق الاستثمار المتداولة في الولايات المتحدة نحو 18 تريليون دولار في أغسطس 2025، ما جعل الحصة السوقية للاستثمار السلبي تقارب 51.6% من إجمالي أصول الصناديق طويلة الأجل.
وتشير سجلات بي دابليو إل كابيتال إلى أن حصّة تلك الصناديق ارتفعت في الولايات المتحدة من 26% إلى نحو 47% خلال سنوات، مع تدفقات صافية بلغت نحو 5.1 تريليون دولار إلى الصناديق السلبية مقابل تدفقات خارجة بحوالي 384 مليار دولار نحو الصناديق النشطة.
ويُقدّر البعض أن أكثر من 53% من الأموال الموجَّهة لصناديق الأسهم الأمريكية تتوجه للخيارات السلبية.
وعلى رأس المشغلين في هذا المجال، تُعدّ الثلاثة الكبار من مديري الأصول الذين يديرون أصولًا ضخمة متمركزة في الصناديق السلبية، ما يعكس حجم السيطرة والتأثير في السوق.
وتتربع شركات بلاك روك وفانجارد وستيت ستريت جلوبال أدفايزرز على قمة هذا القطاع، إذ تدير مجتمعة تريليونات الدولارات من الأصول المتداولة في صناديق المؤشرات لتصبح ذات حجم مهول ولها تأثير مباشر في الأسواق.
فحركات إعادة موازنة المؤشرات وتدفقات الأموال إلى الصناديق السلبية أو خروجها منها يمكن أن تؤدي إلى تحركات سعرية حادة، مما يزيد من تركّز الملكية في عدد محدود من الشركات.
التحدي الخفي وراء نجاح الاستثمار السلبي
تستند الحجة الأساسية الداعمة للاستثمار السلبي إلى حقيقة أن معظم مديري الصناديق النشطة يفشلون في تحقيق عوائد تتفوّق على المؤشرات المرجعية بعد خصم الرسوم والتكاليف.
وتؤكد تقارير إس آند بي داو جونز ونتائج دراسات سبيفا الممتدة على مدى سنوات طويلة، أن الغالبية العظمى من الصناديق النشطة تسجّل أداءً أقل من المؤشرات التي تسعى لتجاوزها، خصوصًا على المدى الطويل وبعد احتساب التكاليف التشغيلية ورسوم الإدارة.
إلا أن هذه الصورة الإيجابية للاستثمار السلبي تخفي وراءها بعض الجوانب الدقيقة التي تستحق التأمل، فمعظم الصناديق السلبية تتبع مؤشرات مرجّحة بالقيمة السوقية، أي أن الشركات الأكبر من حيث رأس المال السوقي تهيمن على النسبة الأكبر من المؤشر.
فعلى سبيل المثال، تمثّل أكبر عشر شركات مدرجة في مؤشر إس آند بي 500 ما يقارب ثلث إجمالي وزنه السوقي، ما يعني أن المستثمرين الذين يعتقدون أنهم يمتلكون "محفظة متنوعة" يعتمد أداؤهم في الحقيقة على تحركات عدد محدود من أسهم الشركات العملاقة.
ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث خلال الطفرة الأخيرة في شركات التكنولوجيا الكبرى، بالتزامن مع موجة الذكاء الاصطناعي، إذ كانت عوائد المؤشرات مدفوعة بشكل شبه كامل بأداء هذه الشركات القليلة.
وفي حين يحقق المستثمر السلبي مكاسب كبيرة في فترات الازدهار، فإنه يتكبد الخسائر ذاتها إذا انعكس الاتجاه، مما يقلل من مستوى التنويع الحقيقي في محفظته الاستثمارية.
هل يهدد الاستثمار السلبي الأسواق؟
يدور الجدل الأكاديمي والرقابي في السنوات الأخيرة حول ما إذا كان الانتشار المتسارع للاستثمار السلبي يهدد قدرة الأسواق على أداء وظائفها الأساسية في اكتشاف الأسعار وتخصيص رأس المال بكفاءة.
وبينما يرى أنصار هذا النهج أنه أداة ثورية لخفض التكاليف وتعزيز الشفافية، يحذر آخرون من أنه قد يؤدي بمرور الوقت إلى تشوهات هيكلية في آلية عمل السوق.
وتشير دراسات بحثية حديثة إلى أن الارتفاع الحاد في ملكية الصناديق السلبية قد يقلل من الحوافز لإجراء الأبحاث الأساسية على الشركات، ويضعف سيولة الأسهم الأقل تداولًا، ويجعل الأسعار أقل ارتباطًا بالأساسيات المالية لكل شركة.
فالصناديق السلبية، بطبيعتها، لا تقوم بتقييم دقيق للأداء الفردي للشركات، بل تشتري الأسهم وفقًا لأوزانها في المؤشرات، ما يقلل من الدور التقليدي للمحللين ومديري الصناديق في تحديد القيمة العادلة للأصول.
ومن أبرز مظاهر هذا التحول تزايد التركّز في الملكية، إذ تمتلك الصناديق السلبية الكبرى حصصًا كبيرة في مئات الشركات في الوقت نفسه.
ورغم أن بعض هذه الصناديق تمارس دورًا إيجابيًا في الرقابة المؤسسية، فإن هذا التركّز يؤدي في بعض الأحيان إلى تشابه هياكل الملكية بين الشركات، مما يضعف المنافسة ويجعل قرارات تخصيص رأس المال أقل ارتباطًا بالأداء الفعلي للشركات المدرجة.
كما تظهر التأثيرات بوضوح عند عمليات إعادة الموازنة الدورية للمؤشرات، فعندما يُضاف سهم إلى أحد المؤشرات أو يُزال منه، تتدفق الأموال تلقائيًا نحو الشراء أو البيع بغض النظر عن أداء الشركة نفسها، ما يخلق تحركات سعرية مؤقتة لا تعكس القيم الحقيقية للأصول.
وبالمثل، فإن سيولة السوق تتأثر باختلالات تدفق الأموال، إذ توفر صناديق المؤشرات المتداولة سيولة عالية لأسهم الشركات الكبرى، في حين قد تعاني الأسهم الصغيرة أو الأقل تتبعًا من ضعف السيولة عند انخفاض التدفقات إلى الصناديق السلبية.
ورغم هذه التحديات، يبقى الاستثمار السلبي أحد أكثر الابتكارات تأثيرًا في تاريخ التمويل الحديث حيث أدى إلى خفض التكاليف الإجمالية للاستثمار، وتوسيع قاعدة المستثمرين الأفراد والمؤسسات، وتعزيز الشفافية في الأسواق المالية.
وتشير دراسات أخرى إلى أن الآثار السلبية المحتملة تصبح مقلقة فقط عندما تصل الصناديق السلبية إلى نسبة مهيمنة للغاية من السوق، بحيث تختفي المنافسة النشطة تقريبًا، وهو سيناريو لم يتحقق بعد على نطاق واسع.
وفي نهاية المطاف يمكن القول إن الاستثمار السلبي يمثل في آنٍ واحد ثورة في الكفاءة وخطرًا محتملاً على الابتكار، فهو منح المستثمرين وسيلة سهلة ومنخفضة التكلفة للوصول إلى الأسواق وتحقيق عوائد مستقرة على المدى الطويل.
في المقابل غيّر طبيعة الأسواق بطرق جعلتها أكثر تركّزًا وأقل حساسية للمعلومات الجديدة.
ولتحقيق التوازن بين الكفاءة والمخاطر، ينبغي دعم بيئة تشجع التنافس العادل بين الصناديق النشطة والسلبية، وتطوير مؤشرات أكثر توازنًا مثل المؤشرات المتساوية الأوزان، إضافةً إلى تعزيز الشفافية في ممارسات الحوكمة والتصويت لدى مديري الصناديق الكبار.
إذ لا يكمن حصر مستقبل الاستثمار في تبنّي نموذج واحد دون الآخر، بل في بناء منظومة متوازنة تجمع بين الكفاءة التي يوفرها الاستثمار السلبي والابتكار والديناميكية التي يقدّمها الاستثمار النشط، بحيث يبقى السوق قادرًا على أداء وظيفته الجوهرية.
المصادر: أرقام- بي دبليو إل كابيتال- إس آند بي داو جونز إنديسيز- إنفستوبيديا- بلاك روك وفانغارد - منصة إس إس آر إن للأوراق البحثية- مورنينج ستار إنسايتس- هيئة السلوك المالي البريطانية وجامعة بريستول- آي شيرز فلو آند تل- فايننشال تايمز
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
