مارلين سلوم
نشعر أننا نمر بأبهى أيام الإنتاج السينمائي المتميز، بعدما مررنا بسنوات من التذبذب. اليوم نشهد طفرة ليس في الكم فقط، بل الأهم أنها في النوع، أفلام تنعش السينما بروح الشباب وأفكارهم المختلفة ورؤاهم الإخراجية وحكاياتهم الباحثة عن كل ما هو مختلف، وكل ما يشذ عن قاعدة اجترار القضايا الاجتماعية المستهلكة، حكايات تمس القلب وتذهب إلى العمق وكأنها تبحث عن الإنسان في داخلنا، وها نحن نخرج من الصالات حاملين معنا كل قصص وأبطال وصور ومشاهد «ولنا في الخيال حب» وكأنهم يرفضون مغادرتنا ونرفض التخلي عنهم بعد انتهاء عرض هذا الفيلم الأكثر من رائع.
«اشتقنا»، هذه الكلمة لا تفارقك وأنت تشاهد «ولنا في الخيال حب»، اشتقنا لهذه النوعية من الأفلام الرومانسية الرقيقة الهادئة السريعة التي تجمع كل الفنون في فيلم، غناء ورقص وتمثيل واستعراض وحب وحزن وفرح وفراق وأمل ووفاء وخيال وواقع، الحب بأكثر من وجه، والوهم بأكثر من حقيقة، الخوف والتردد يقابلهما اندفاع وتهوّر، شغف ينعكس مباشرة على الجمهور في الصالة، فيشعر وكأنه جزء من تلك القصص ومن ذلك الحب، ويصل تأثير الفيلم بالمشاهد أنه يجعله يفكر أكثر بأحبائه ويتمسك بهم أكثر ويحبهم أكثر ويتمنى أن يعيش معهم أكثر، مخرجة العمل سارة رزيق شافع كتبت قصة تشبه الحياة وتشبه مشاعر كل من يعرف الحب الحقيقي، تسحبنا من مقاعدنا لنركض مع نوح ووردة هنا وهناك وكأننا نستعيد روح الشباب و«غليانه» وفيض مشاعره التي لا تحتكم لأمر العقل أحياناً بل تسرع خلف الأحلام وخلف المشاعر وكأنها فراشات تطير مع كل النسمات.
خطوة أولى
سارة رزيق شافع لم تطرق باب السينما على استحياء ولم تضع خطوة أولى عبثية، بل دخلت بجرأة وثقة وبفكرة جديدة، لم تخش من تقديم نوع مختلف عما اعتادت عليه السينما العربية، رقص باليه وموسيقى كلاسيكية ورسم وتمثيل وسينما وأجواء ذكرتنا بفيلم «لا لا لاند»، وكأننا لا نعيش في زمن الإنترنت والتكنولوجيا، زادتنا حنيناً لأيام زمان، خصوصاً مع كل تفصيلة، ديكور ومحتوى بيت بطل قصتها د. يوسف مراد (أحمد السعدني)، بيت احتفظ بكل ما هو عتيق، يغلي مياه ويضعها في «طشت» (وعاء الغسيل القديم) ليستحم، وعلى نغمات الموسيقى الكلاسيكية يتحرك، يضيء البيت ويشعل التلفزيون قبل أن يخرج متجهاً نحو عمله في أكاديمية الفنون.
تهدي سارة رزيق فيلمها لوالدتها ماجدة حافظ، وتمنح شقيقها عمر رزيق فرصة ذهبية ليبرز مواهبه المتعددة في الرقص والاستعراض والتمثيل. دينامو حقيقي للعمل، يسرق الكاميرا بطاقته التي تشع وحيويته وصدق انفعالاته، هو شريك السعدني في البطولة، بدور الشاب نوح ومعهما الشابة مايان السيد والتي منحتها المخرجة هي الأخرى فرصة جديدة لتخرج من إطار الأدوار الضيقة التي غرقت فيها في الدراما التلفزيونية، شخصية وردة ابنة ال18 عاماً ونصف العام، أخرجت من مايان السيد طاقات مختلفة وكأنها ولدت من جديد على الشاشة، قفزة مهمة تضعها على سلم الصعود شرط أن تعرف اختيار أدوارها.
شخصيات ثانوية
نجوم الفيلم يمكنك عدهم على الأصابع، فبجانب أبطاله الثلاثة، تطل شخصيات ثانوية ولكنها فاعلة، بسنت أبو باشا بدور ليلى زوجة يوسف، إيناس الفلال تجسد أم نوح، فريدة رجب هي كوكي زميلة نوح ووردة في المعهد، وضيوف الشرف خالد كمال (حمد أبو اليسر)، المخرج عمرو سلامة بشخصيته الحقيقية، ومنحة البطراوي (أم ليلى)، أماكن التصوير أيضاً محصورة، تزيد مساحة الألفة بين الفيلم والجمهور، نعتاد على هذه الأماكن، بيت يوسف وجاره نوح والمعهد مروراً ببعض الشوارع في القاهرة، لا تلتقط عين المخرجة إلا الجمال في كل مشهد، لا حواري وعشوائيات وأمراض مجتمع ومخدرات وعنف. حتى الشباب ملابسهم مهندمة وهي متماشية تماماً مع ملابس هذا الجيل ومتطابقة مع الواقع، لكن المخرجة اختارت من الواقع أجمل ما فيه.
نعود إلى القصة، نوح شاب متهور ومتسرع وكغالبية الشباب في مثل سنه (18 سنة ونصف السنة) يندفع خلف أفكاره ويهمل بعض التفاصيل المهمة، وهو ما يجعل وردة تصل إلى مرحلة الغضب من رعونة تصرفاته، تجمعه بوردة قصة حب عمرها عشرة أعوام، أي منذ الطفولة، لكن يبدو أن الفتاة سبقت نوح في مرحلة النضج ولم تعد الرومانسية تعني لها الكثير، فبينما نوح يهيء لها مفاجأة وهدية للاحتفال بالعشرة أعوام معاً، تسعى وردة إلى تحقيق ذاتها بالعمل في تصميم الديكور في الأفلام، وبالاجتهاد والالتزام في الدراسة، بينما يتسبب حبيبها «المراهق» بنظرها بإحراجها في موقع التصوير، وبتأخيرها عن حضور أول محاضرة في تاريخ الفن التشكيلي للدكتور يوسف مراد العائد حديثاً من ألمانيا والذي يقال عنه أنه دقيق جداً وحازم ويرفض إدخال من يصل متأخراً ولو قليلاً.
المتوقع أن تقرر وردة إنهاء هذه العلاقة، طالما بدأت تبحث عن إنسان ناضج يشاركها طموحها في العمل وإثبات الذات، ونوح يتصرف بلا إحساس بالمسؤولية، لكن المؤلفة والمخرجة سارة رزيق تفاجئنا بأحداث غير متوقعة طوال الوقت، نوح يقرر الانفصال ويبحث عن حب جديد، كيف تعيد المخرجة إحياء المراسلات الغرامية عبر الرسائل المكتوبة بالحبر والورق لا إلكترونياً، وتحيي حب الجار لابنة الجيران، ولهفة الوقوف عند النافذة ليلمح طيفها من بعيد، في المقابل تقلب وردة حياة الدكتور يوسف المنغلق على ذاته الرافض الخروج من الماضي والتصالح مع ذاته ومع الحياة، هنا أيضاً نتوقع أحداثاً ونفاجأ بأخرى.
حيوية الشباب
الحوار ثري، فلسفي عميق، تأثرت سارة رزيق بباليه «كوبيليا» فاستوحت هذا العمل، لم تغرق في الإيقاع الكلاسيكي بل ضخت الكثير من حيوية الشباب وسرعة أدائهم وتفكيرهم وتحركاتهم. فلسفة واقعية رغم شدة رومانسيتها، تمزج بين الخيال والواقع، ينبت حب في الخيال أحياناً ويعيش ويستمر، وينمو الخيال في ظلال الحب أحياناً، لكل من الأبطال الثلاثة حب في الواقع وآخر في الخيال، وتمشي قصة يوسف وليلى بموازاة قصة قصة نوح ووردة مع اختلاف الأعمار، أكثر من موقف مؤثر، وأكثر من مشهد أداه الثلاثي السعدني ومايان السيد وعمر بأفضل ما يمكن أن يكون، ونشعر أن أحمد السعدني تواءم لدرجة الالتحام مع شخصية الدكتور يوسف، وقدم أحد أهم وأجمل أدواره على الإطلاق، بل في مشهد استضافته أحد زملائه في بيته، واكتشاف هذا الأخير حقيقة ما يعيشه يوسف منذ وفاة زوجته بحادث في ألمانيا، قدم السعدني أداء جعل الجمهور يتفاعل معه، يبكي لبكائه ويتعاطف معه في كل مواقفه.
لن نحرق التفاصيل المهمة والنهاية التي تزيد الفيلم جمالاً، فهذا الفيلم يشعرك برغبة في الحديث عنه مطولاً والعودة لمشاهدته أكثر من مرة، ويكتب لسارة رزيق شافع ولادة مميزة في عالم التأليف والإخراج السينمائي، كما يفتح آفاقاً واسعة أمام كل فريق عمله وأبطاله.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
