أظهرت عمليات الدمج والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط، مرونة استثنائية وقدرة عالية على الصمود؛ إذ قفزت قيمتها بنسبة 260% لتصل إلى 53 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، مقارنةً بالفترة ذاتها من العام الماضي. ويأتي هذا الأداء الاستثنائي رغم تراجع نشاط الصفقات في وقتٍ سابق من العام الجاري إلى أدنى مستوياته منذ أزمة جائحة كوفيد-19، وذلك بحسب التقرير العالمي لعمليات الدمج والاستحواذ لعام 2025 الصادر عن شركة بوسطن كونسلتينغ جروب. يرجع هذا الأداء الإيجابي إلى النجاحات الاستثمارية الكبرى التي شهدتها المنطقة، في وقتٍ تسود فيه حالة من الضبابية الاقتصادية في الأسواق العالمية. تُظهر البيانات الشهرية أن نشاط عمليات الدمج والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط قد نما على مدار السنوات الثلاث الماضية إلى مستويات تفوق المتوسط التاريخي، في ظل حالة تعافٍ قوية من التباطؤ الذي صاحب فترة الجائحة. كما يكشف مؤشر بوسطن كونسلتينغ جروب لعمليات الدمج والاستحواذ – بوصفه مؤشراً استشرافياً لنشاط الصفقات – عن تحسّن واضح في مستويات ثقة المستثمرين في أغلب القطاعات، مع تصدُّر قطاعي التكنولوجيا والطاقة قائمة القطاعات الأكثر جذباً للمستثمرين. وفي المقابل، ورغم تسجيل منطقة إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى نمواً بنسبة 6% في القيمة الإجمالية لصفقات الدمج والاستحواذ، لا يزال نشاط الصفقات دون المتوسط المسجَّل خلال السنوات العشر الماضية. نهج متقدم وقال صامويل بيلاني، المدير المفوَّض والشريك في شركة بوسطن كونسلتينغ جروب:«يعكس مشهد عمليات الدمج والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط لعام 2025 نهجاً متقدّماً في توظيف رأس المال، حيث تلتقي جهود التنويع الاستراتيجي بطموحات التحوّل الرقمي. ونلحظ حضوراً فاعلاً لمستثمرين ذوي خبرات كبيرة، يواصلون ضخ استثمارات استراتيجية طويلة الأمد، تُعزِّز قدرات قطاع الطاقة التقليدي، وتبني في الوقت ذاته مسارات جديدة للنمو الاقتصادي ضمن قطاعي التكنولوجيا والخدمات الصناعية». الطاقة يتصدّر وشكَّل قطاع الطاقة المُحرِّك الأساسي لنشاط صفقات الدمج والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط طوال عام 2025؛ إذ واصلت الجهات المدعومة من الدولة تنفيذ موجة من صفقات الدمج المحلية، بالتوازي مع توسُّعها على الصعيد الدولي عبر إبرام صفقات استحواذ استراتيجية. وشملت أهم الصفقات صفقة الاستحواذ التاريخية بقيمة 13.4 مليار دولار لدعم التوسّع الدولي لدولة الإمارات في قطاع الصناعات الكيماوية، إلى جانب صفقة أخرى بقيمة 693 مليون دولار في قطاع توليد الطاقة والمرافق، ضمن موجة متواصلة من صفقات الدمج في هذا القطاع الحيوي. تعكس هذه الصفقات قوة ومتانة القطاع، وفي الوقت ذاته تدعم التحوّل التدريجي للمنطقة نحو مصادر الطاقة المتجددة، بما يرسّخ مكانة المؤسسات الوطنية وريادتها عالمياً في مسيرة التحوّل المستقبلي لقطاع الطاقة. كما شكّل القطاع الصناعي إحدى الركائز الأساسية في استراتيجيات التنويع الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعمل الحكومات وصناديق الثروة السيادية بشكلٍ منهجي على بناء مساراتٍ تنموية جديدة تُقلِّل من الاعتماد التقليدي على الثروة النفطية. في السياق ذاته، شهد عام 2025 إبرام صفقة استراتيجية بقيمة 925 مليون دولار لتعزيز ترابط وتكامل البنية التحتية الحيوية لسلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية في المنطقة. تعكس هذه الصفقة توجهاً استراتيجياً طويل الأمد، لترسيخ مكانة الشرق الأوسط كمركز عالمي للخدمات الصناعية واللوجستية، وتقليل الاعتماد على العائدات النفطية، وتعزيز القدرات التنافسية للمنطقة في جميع القطاعات. نمو قطاع التكنولوجيا وشهدت قطاعات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات زخماً غير مسبوق خلال عام 2025، لتُرسِّخ مكانتها كركيزة جديدة في مشهد الدمج والاستحواذ الإقليمي، وتعكس تحولاً نوعياً في أولويات الاستثمار في المنطقة. وقد شكّلت صفقة الاستحواذ بقيمة 3.5 مليار دولار – والتي تُعد من أكبر الصفقات في مجال الترفيه الرقمي على مستوى العالم – مؤشراً واضحاً على طموح المنطقة في أن تصبح مركزاً دولياً رائداً في مجال الألعاب الإلكترونية والترفيه الرقمي. وفي السياق ذاته، عزّزت صفقة استحواذ أخرى بقيمة 855 مليون دولار الحضور الإقليمي داخل الأسواق الأوروبية عبر مشروع ضخم لتطوير البنية التحتية لقطاع الاتصالات، بما يعكس حرص المستثمرين في المنطقة على تبنّي خطوات استراتيجية للاستفادة من الفرص الاستثمارية الواعدة في المنصات الرقمية وشبكات الاتصال والبث والترفيه التفاعلي، بما يتواءم مع برامج التحوّل الرقمي الوطنية. وأضاف بيلاني: «ما نشهده اليوم هو تحوُّل جذري في طريقة تعامل المستثمرين في منطقة الشرق الأوسط مع عمليات الدمج والاستحواذ؛ إذ لم تعد الصناديق السيادية مجرّد محرّك للصفقات، بل أصبحت صانعة لنموذج اقتصادي جديد يمزُج ويوازِن بين القوة التقليدية لقطاع الطاقة، والقدرات التكنولوجية المتقدمة، والبنية التحتية الصناعية ذات المعايير العالمية». ومع اقتراب عام 2025 من نهايته، تبرز منطقة الشرق الأوسط كواحدة من أهم أسواق الدمج والاستحواذ وأكثرها حيوية على مستوى العالم. وتواصل الصناديق السيادية ضخ احتياطيات رأسمالية كبيرة لضمان استمرارية تدفّق الصفقات، رغم ما تشهده المنظومة الاقتصادية العالمية من تقلبات حادّة. في الوقت نفسه، تُواصل الاستراتيجيات الحكومية جهودها لتعزيز عمليات الدمج في القطاعات الصناعية والتقنية، بما يُعزّز قدرة المنطقة على مواجهة التقلبات المرتبطة بالاعتماد على العائدات النفطية، والتخفيف من تداعياتها. ويُؤكِّد استمرار تدفّق المستثمرين الأجانب نحو قطاعات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات، والخدمات المالية، والرعاية الصحية على ما تزخر به المنطقة من مزايا فريدة، تتمثل في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام، وتسريع مسار التنويع الاقتصادي. كما يعكس الزخم المستمر في نشاط الدمج والاستحواذ بالشرق الأوسط فهماً عميقاً لديناميكيات الأسواق العالمية؛ إذ يجمع بين التخطيط الاستراتيجي المتكامل، والتنفيذ الفعال، بهدف بناء مزايا تنافسية مستدامة تمتد عبر قطاعات ومناطق جغرافية متنوّعة حول العالم.