أثناء مشاهدتي لفرحة البنات اليافعات وهن تتجاوبن مع عروض فرقة ( سيرك غزة الحر ) وفرحة الأطفال الصغار واندماجهم مع العرض تذكرت ما كتبه ماكسيم جوركي في روايته " الأم " التي كانت ترصد بدايات الثورة البلشفية وبطلتها الأم التي شاركت في النضال، كتب جوركي على لسان صديق البطل: " إنني أستطيع مكابدة كل شيء وتحمل كل شيء لأنني أمتلك فرحا عظيما لا يستطيع أي إنسان أو أي شيء أبدا مهما كان أن ينتزعه مني، وهذا الفرح هو مصدر قوتي " سلاح مقاومة شعب غزة خاصة وشعب فلسطين عامة هو هذه الفرحة التي يمتلكها الفلسطيني منذ ولادته، كنت أتأمل ما يقدمه أفراد سيرك غزة لأطفالها وفي الخلفية البنايات المدمرة، غير ملتفتين إليها وكأنها أصبحت جزءا من واقعهم اليومي. يحكي يوسف مؤسس سيرك غزة الحر عما حدث في السوق، تسقط قذيفة ويسود ظلام ولا تمضي إلا دقائق حتى يعود الناس في السوق إلى حياتهم العادية وكأنهم نفضوا ذبابة طارت حولهم، يحكون ويحكون عن قنابل تفجر بيتا ويموت كل ساكنيه، بيت جار يعرفون سكانه بالاسم يترحمون عليه ويحتسبوهم شهداء ويستمرون في حياتهم والفرحة لا تفارقهم إما عيش بكرامة أو استشهاد للوطن. في فيلمهما المخرجة مي سعد والمخرج أحمد الدنف يصوران فرقة الشباب في رحلتها بين شمال وجنوب غزة، والشباب هم يوسف خضر، محمد أيمن، محمد عبيد (جاست)، أحمد زيارة (بطوط)، إسماعيل فرحات، وآخرين. رحلة فرقة فنية تيمة تم تناولها في أفلام أمريكية ومصرية، فكرة يجد فيها صناع الأفلام طرافة في تقديم شخصيات تتنوع وتشتبك مع متغيرات الحياة، غالبا تروي كفاح الفرقة والسعي لتحقيق نجاح فني ، تحقق وشهرة، ولكن رحلة سيرك غزة على خلفية حرب المحتل على أصحاب الأرض الأصليين تأخذ طابعا مختلفا فليس من أهداف أفرادها تحقيق الشهرة والمجد الفني، رحلة أفراد سيرك غزة أكثر استثنائية وأكثر درامية فنحن مع الفرقة في مشاهد الأداء وعلى طول الرحلة، في لحظات الراحة يتبادلون الحديث، ينادي بعضهم بالاسم الذي يتكرر فنشعر بالقيمة التي يمنحها كل منهم للأخر. لحظات الحزن موجودة ولكنها تعبر وتسود الفرحة بهذه الشجاعة الجبارة في العيش تحت القصف.يحضرون طعاما ويحكون وتأتيهم هدية تسع بيضات تضاف إلى البطاطس والباذنجان لتكون وليمة يتناولونها على مهل وسط الحكي. فرحون بما لديهم ولكنهم أيضا يمتلكون القدرة على الاستغناء والاكتفاء، هدفهم فقط العمل على إسعاد الأطفال، هم بعيدون عن أسرهم وأطفالهم، يهاتف يوسف زوجته ويسألها عن ابنه الرضيع الذي تركه ليؤدي مهمة الترفيه عن أطفال غزة، يكتب على الشاشة اسم المكان لنعرف أننا نشاهد أحداثا واقعية تحدث بالفعل في مكان من غزة المنكوبة، ونشهد حدوثها على مدار تسعون دقيقة زمن الفيلم التسجيلي "ضايل عنا عرض" بالعامية الفلسطينية بما يعني أن هناك عرضا آخر حتما سيحدث، يتأثر جمهور مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ويمنحون الفيلم جائزة الجمهور التي سميت باسم الناقد الكبير الراحل يوسف شريف رزق الله، حصلت ماريان خوري أيضا على جائزة الجمهور عن فيلمها التسجيلي احكيلي عام 2021، وكانت مندهشة وهي تتسلم الجائزة، وتكرر جائزة الجمهورعن فيلم تسجيلي تسجيلي، وها هي مرة ثانية ينحاز الجمهور لفيلم تسجيلي يقوم فيه أفراد طبيعيون بما يفعلونه حقا في الواقع، نجح صناع الفيلم في جعل الشخصيات تتحدث بعفوية وتحكي همها، اقتنصوا لحظات حميمة بينهم وبين أطفال غزة، غالبا تم بناء الفيلم في المونتاج دون سيناريو مسبق إذ تتطور الفكرة مع التصوير ويكتمل العمل بموسيقى تصويرية تكمل مع الأغاني الحماسية شريط صوت قوي وجاذب ( يوم ما تغني لأخواتك بتهب أشواق فينا ). في أكثر من مكان نسمع تمني حدوث الهدنة أمنية تتكرر على ألسنة أعضاء الفرقة، بينما شعب غزة منغمسون في استقبال محبة وإخلاص الفرقة بتجاوب كبير ومحبة مماثلة. أشعر أنهم يدركون أن هناك من يصور ويوثق ولكنهم يتصرفون دون افتعال ويظهر أداءهم طبيعيا أمام الكاميرا. سواء هذه الفرقة من الشباب أم كل الفلسطينية أصبحوا مادة خبرية فاعتادوا على الظهور على صفحات الأخبار ولم تعد الكاميرا تخيفهم. يتحرك أفراد الفرقة في سيارة نصف نقل، يوسف يتذكر أيام خان يونس ونسمع غناء من كاسيت ( آني هون ، لساني هون ) غناء فردي تنضم اليه المجموعة ..( لسه في ولد يبكي فلسطين البلد) الكلمات حزينة ولكن الإيقاع حماسي وبه افتخار. مشهد على البحر مصطفون يحكون، ( اليهود وصلونا اننا نتمنى بس باب الدار .. وحرب بدون حرب بالدرون) يتواصل شكل الرحلة مع انتقالات بين الطريق وأماكن استراحة ، ونعود لأغنية العمل المعبرة عن إصرار البقاء ( آني هون /مات كثير صغير الولد/ لسه بيكتب سيرة بلد/ آني هون لسه عايش بلا سند ). والحديث يتواصل وبناء الفيلم في شكل روائي يؤدي بنا في نهاية المطاف للعرض الأخير في خان يونس والأطفال منسجمون وخلفهم البنايات المهدمة، هذا المشهد الذي ذكرني بمقولة جوركي عن الفرحة التي يمنلكها االثوار في كل مكان وزمان. فيلم "ضايل عنا عرض" إنتاج باهو بخش وصفي الدين محمود ، منتج مشارك محمد حفظي ، تصور أحمد الدنف ، يوسف مشهراوي ومحمود مشهراوي. ضايل عنا عرض المخرج أحمد الدنف المخرجة مي سعد