دان شتاينبوك * تعيش اليابان لحظة سياسية حساسة بعد تصريحات رئيسة الوزراء الجديدة، ساناي تاكايتشي، بشأن احتمال تورط بلادها في نزاع عسكري بين الصين وتايوان، وما أثارته من أزمة دبلوماسية حادّة. لكن خلف هذا التصعيد، يبرز واقع اقتصادي متدهور يشكّل التحدّي الأكبر أمام طوكيو، وقد يكون الدافع الحقيقي وراء تشدد المواقف السياسية في المرحلة الحالية.ومنذ تولّيها رئاسة الحكومة، كسرت تاكايتشي عرفاً سياسياً قائماً منذ 26 عاماً، بإنهاء التحالف مع حزب «كوميتو» الوسطي، لتتجه نحو شراكة جديدة مع حزب «نيبون إيشين» اليميني. وهذا التحول لم يكن مجرّد تعديل سياسي، بل قاد البلاد إلى توجه أكثر صلابة، وأقرب إلى اليمين المتشدّد، خصوصاً في ما يتعلق بالصين.وعلى الرغم من أن حكومة تاكايتشي حصدت نسب تأييد مرتفعة تراوحت بين 65%، و85% في الأسابيع الأولى، فإنّ أولويات اليابانيين بقيت اقتصادية بالدرجة الأولى، حيث تصدرت مكافحة التضخم، وتحفيز الاقتصاد، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي، قائمة المطالب الشعبية.وجوهر التحديات في اليابان اقتصادي أكثر منه سياسياً، فقد أقرّت الحكومة حزمة تحفيز جديدة بقيمة 135 مليار دولار، بهدف مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، وتعزيز الاستثمار في قطاعات استراتيجية، كأشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي. إلا أنّ هذه الخطوة تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الياباني تراكمات عمرها عقود.وتمتلك اليابان، اليوم، أكبر دَين عام في العالم نسبة إلى الناتج المحلي، يقترب من 10 تريليونات دولار، إضافة إلى مجتمع يشيخ بسرعة، ويدخل مرحلة تراجع في أعداد القوى العاملة، ما يضغط على الإنتاجية، ويزيد أعباء الإنفاق الاجتماعي.وعلى الرغم من أن طوكيو استطاعت تجنب الأزمات المالية الكبرى بفضل اعتمادها على مستثمرين محليين وفوائد منخفضة، فإن استمرار نهج الحزم التحفيزية الضخمة يهدّد بتحويل الديون إلى عبء يصعب احتواؤه مستقبلاً.وبدأت الأسواق اليابانية تعكس القلق من النهج الاقتصادي الجديد، فقد ارتفعت عوائد السندات الحكومية لعشر سنوات إلى 1.835%، وهو أعلى مستوى منذ عام 2008، نتيجة المخاوف بشأن قدرة الحكومة على ضبط الإنفاق. وفي المقابل، شهد الين تراجعاً ليلامس 157.90 مقابل الدولار، ما يعكس تراجع الثقة بالسياسة المالية الحالية.وهذا الضعف في الين يرفع تلقائياً فاتورة الواردات، ويزيد من معدلات التضخم، وهو ما يتعارض مع هدف الحكومة في السيطرة على الأسعار. وفي حال استمرت المؤشرات المالية في التدهور، ستتآكل فعالية الحوافز الاقتصادية، وقد تُضطر الحكومة إلى إطلاق برامج إنقاذ جديدة، ما يعني مراكمة المزيد من الديون.وتؤكد حكومة تاكايتشي أهمية التنسيق مع بنك اليابان، إلا أن هذا التنسيق يثير المخاوف من ممارسة ضغـــوط سياسية على البنك المركزي لمنعه من رفع أسعار الفائدة، على الرغم من بلوغ التضخم 3% في أكتوبر.وفي حال خضع البنك لهذه الضغوط، فإن ذلك قد يضعف مصداقيته، ويؤدي إلى استمرار تراجع الين وزيادة التضخم المستورد، وتراجع الطلب على السندات اليابانية، وهروب محتمل لرأس المال.وهذه التداعيات ستدفع الحكومة حتماً، لاتخاذ إجراءات تحفيزية إضافية، وتدخل البلاد في حلقة مفرغة تزيد فيها الديون، وتضعف فيها القدرة على احتواء الأزمة.وتبدو تصريحات تاكايتشي حول تايوان جزءاً من استراتيجية سياسية تهدف إلى تحويل الأنظار عن الواقع المالي الصعب الذي تواجهه البلاد. فاليابان تعاني، اليوم، ارتفاع الأسعار، وضعف العملة، وتباطؤ النمو، وتراجع القدرة الشرائية، وكلها عوامل تشكل هواجس أساسية لدى الناخب الياباني.ومع أنّ الصين هي أكبر شريك تجاري لليابان، فإن الدخول في مواجهة، سياسية أو عسكرية، معها سيزيد من العبء الاقتصادي، ويضر بالصادرات اليابانية، وسلاسل التوريد بشكل مباشر. * مؤســس مركــز «ديفــرنس غــروب» للأبحاث والتحليل الاستراتيجي (مودرن ديبلوماسي)