خليفة بن حامد الطنيجي
بين دفتي كتاب يختبئ في أعماق رفوف المكتبات، قصة أعجوبة جمعت بين معلم من الساحل الشرقي والطبيبة الشعبية حمامة الطنيجي في قرية الذيد. هنا تكمن حكاية بدأت فصولها في أوائل السبعينات من القرن المنصرم، ورواها الكاتب الكبير نجيب الكيلاني في كتابه «حكايات طبيب»، وإليكم الحكاية...
«منذ تسع سنوات، كان حمدي عبد الغفار يعمل مدرساً في إمارة الفجيرة، يعيش بين زملائه وأحبائه الجدد، لكنه لم ينسَ لحظة وطنه وقريته بفلسطين، ولا جراحه التي لم تندمل.
في أحد الأيام، جاءت ابنته مسرعة تقول:
- بابا... أمي تبكي كثيراً!
أدرك حمدي على الفور أن زوجته سهاد، الحامل في شهرها التاسع، قد بدأت آلام المخاض. حملها بسرعة إلى سيارته «اللاندروفر»، وانطلق بها إلى أقرب مستشفى في خورفكان، لكن الطبيب أخبره أن الولادة متعسرة، وأن المستشفى في تلك المرحلة لا تتوفر فيه الإمكانيات اللازمة، ولا حلّ إلا نقلها إلى مستشفى دبي المركزي، المجهز بأحدث المعدات.
كان الطريق إلى دبي طويلاً محفوفاً بالمخاطر، يستغرق ست ساعات على الأقل. اقترح الطبيب حلّاً آخر: الذهاب إلى معسكر يبعد ساعتين حيث يوجد ضابط بريطاني قد يوافق على نقلها بطائرة هليكوبتر.
انطلق حمدي وزوجته، وسائق من المستشفى والسيارة تهتز فوق الحصى والمنحدرات، وزوجته تكتم أنينها وتقبض على ذراعه بقوة. وصلوا أخيراً إلى المعسكر، لكن الضابط قال لهم وفق الإجراءات المتبعة في حالة الطوارئ: لابد من تصريح من الطبيب مشفوع بختم المستشفى، لأنها تعتبر مهمه رسمية. عادوا إلى السيارة مواصلين الرحلة وسط الليل والجبال.
وأكملوا طريقهم في وادي حام الكبير وفيه تعلو السيارة وتهبط وترجهم رجاً عنيفاً والحصيات ترتطم بأسفلها وبجوانبها، حتى حمدي السليم المعافى كادت عظامه تتكسر. أما المسكينة، فقد كانت تكظم أساها، وتعض على شفتها السفلى، وتقبض على ذراع زوجها بأصابعها المتشنجة.
كان قلبه يدق في عنف، والسائق يمضي في طريقه صامتاً، والجبال العالية الضخمة تضرب بهاماتها في الأفق الأسود، والسيارة تحت أقدام الجبال تبدو كلعبة صغيرة..
عند اقترابهم من الذيد، لاحظ حمدي أن السائق يكثر من إخراج رأسه من نافذه السيارة ويتطلع يمنة ويسرة، وحينها أدرك أن السائق ضل الطريق. اشتد أنين سهاد، وبدأ الأمل يتلاشى، حتى لمحوا رجلاً بدوياً يقترب منهم (كان ذلك البدوي حمد القابض). استمع لقصتهم، ثم قال:
- لا تقلقوا، أعرف الطريق... لكن المرأة مرهقة جداً، ولحسن الحظ لدينا سيدة تعرف التوليد. انطلق حمد بسيارته أمامهم، حيث كان أول من اقتنى سيارة بالمنطقة الوسطى بأسرها، يدلهم على مسكن الطبيبة الشعبية حمامة الطنيجي، وماهي إلا لحظات حتى وصلوا إلى المكان المنشود.
ناداها حمد بصوت عالٍ:
- حمامة... تعالي بسرعة.
أخذت حمامة الزوجة إلى كوخها المتواضع (صدقة من الخشب)، وقالت بثقة:
- لا قوة في الوجود تمنع الجنين من الخروج إذا أتم موعده... إنها إرادة الله.
ارتفعت الدعوات والدموع، وبعد لحظات من الصمت، خرجت حمامة مبتسمة:
- مبروك... لقد وُلد ابنك سليماً، كأنه لم يعرف مشقة، يتنفس بسهولة ويرقد كالملاك.
لكنها أضافت بجدية:
- أمه ضعيفة جداً وقد نزفت كثيراً... يجب نقلها فوراً للمستشفى.
مكثت سهاد أسبوعين في المستشفى حتى استعادت صحتها. ومنذ ذلك اليوم، اعتاد حمدي أن يزور حمامة كلما عاد من الفجيرة، حاملاً معه هدية بسيطة، وفاءً ليدٍ امتدت في أصعب اللحظات».
وبالعودة إلى الروائي والطبيب نجيب الكيلاني، فقد عمل بعد تخرّجه في القسم الطبي بهيئة السكك الحديدية بمصر، وبعدها سافر إلى عدة دول عربية وعمل طبيباً فيها، كالكويت والإمارات وظل بها لعدة سنوات. وبعد ذلك تنقل الكيلاني في عدة مناصب طبية مهمة، وكان أهمها أنه أصبح مستشاراً أول لوزير الصحة بالإمارات لمدة عشر سنوات، ثم تولى منصب مدير التثقيف الصحي بوزارة الصحة وأثرت تلك الفترة في كتاباته الطبية المهمة. وبعدها تمت إحالته على المعاش وعاد إلى مصر، ورحل عن دنيانا عام 1995.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.