شهد المركز الثقافي في أبوظبي، التابع لوزارة الثقافة، جلسةً نقاشية بعنوان «دور المراكز الثقافية في التنمية الثقافية واستدامتها». شارك في الجلسة نخبة من المثقفين والمبدعين والأكاديميين، بحضور واسع من المهتمين، وأدارتها الإعلامية سميحة عزام. جاءت الجلسة في إطار سعي الوزارة إلى تعزيز دور المراكز الثقافية بوصفها مؤسسات فاعلة في بناء الإنسان وترسيخ الهوية، وفضاءات مفتوحة لإنتاج المعرفة وصناعة الإبداع. وفي كلمتها الافتتاحية، أكدت منى العامري، مدير المركز الثقافي بأبوظبي، أن المراكز الثقافية في الإمارات تجاوزت مفهومها التقليدي بوصفها أماكن للفعاليات والأنشطة، لتتحول إلى منصّات حيّة لصناعة الإنسان وتغذية الوعي الثقافي. وقالت: «الثقافة ليست ترفاً، بل مسؤولية وطنية، وهذه المراكز تؤدي دوراً محورياً في صياغة وعي الفرد وربطه بجذوره وقيمه، في الوقت ذاته الذي تنفتح فيه على العالم». وأشارت إلى أن الوزارة تعمل على تطوير نموذج مؤسسي يربط بين الثقافة والتنمية، ويجعل من المراكز الثقافية بيوتاً للإبداع المستدام ومناراتٍ للتفكير والحوار. من جهته، قدم د.محمد بن جرش السويدي، المستشار الثقافي لجمعية الإمارات للإبداع، كلمة موسّعة تناولت العلاقة العميقة بين التنمية الثقافية والتنمية الشاملة. وأكد أن الثقافة هي القوة الناعمة التي تحمي المجتمعات وتمنحها القدرة على التطور. وقال: «لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية أو اجتماعية دون تنمية ثقافية موازية، فالثقافة هي التي تصنع الفكر، والفكر يصنع السلوك، ومن هنا تتكوّن الشخصية الوطنية الواعية». وأوضح أن «الثقافة ليست قطاعاً تكميلياً في بنية المجتمع، بل هي جوهر التنمية وروحها، إذ لا يمكن لأي نهضة اقتصادية أو اجتماعية أن تُبنى بمعزل عن قاعدة ثقافية صلبة». وأشار إلى أن الثقافة، بمعناها الأعمق، منظومة متحركة من القيم والتصورات تشكّل وعي الإنسان وتحدد نوعية سلوكه الفردي والجمعي، وهي التي تبني الهوية وتصون الذاكرة وتصوغ ملامح المستقبل. وذكر أن المراكز الثقافية مطالَبة بأن تتحول إلى مختبرات فكرية وإبداعية، لا مجرد منصّات للأنشطة، وأن تستثمر في الإنسان بوصفه محور التنمية وغايتها. وشدد على أن التحول نحو مأسسة الثقافة يمثل ركيزة أساسية للاستدامة الثقافية، فالثقافة، كما قال، يجب أن تقوم على التخطيط والحوكمة والمعايير، لا على الجهود الفردية والانطباعات العابرة. وأكد أهمية الاعتماد على المنهجية العلمية في وضع السياسات الثقافية، مشيراً إلى ضرورة تعزيز البحوث والدراسات التي تقيس الأثر الثقافي، وتستشرف اتجاهات القراءة والإبداع، وتحلل التحولات القيمية، وتحدد أولويات الاستثمار الثقافي. وقال إن القرارات الثقافية الرشيدة تُبنى على بيانات وتحليل، لا على الحدس، وأن بناء مؤشرات علمية لقياس الأثر بات ضرورة وطنية. ودعا د.محمد بن جرش إلى تعزيز التكامل بين المؤسسات الثقافية والتعليمية والأكاديمية، ودمج الثقافة في مسار بناء الإنسان منذ الطفولة، بحيث تصبح المراكز الثقافية شريكاً تربوياً وتنموياً، لا جهة مساندة فقط. وشدد على أهمية إطلاق برامج تُنمّي الخيال والابتكار وتحتضن المواهب الشابة، بما يحول الثقافة إلى قوة ناعمة تعزز مكانة الإمارات عربياً وعالمياً. وختم قائلاً: «إن الثقافة مشروع وطني مستدام، لا يكتمل إلا حين يصبح كل مركز ثقافي في الإمارات بيتاً للفكر، ومختبراً للإبداع، ومنارة لصون الهوية وبناء الإنسان». المبدع والاستدامة تحدثت فاطمة المزروعي، الأديبة والناقدة، عن دور المبدع والمثقف في استدامة التنمية الثقافية، مؤكدة أن «المبدع هو الشريك الحقيقي في صناعة الوعي، وأن المراكز الثقافية تمثل الفضاء الطبيعي لاحتضان المواهب وتوجيهها نحو الإبداع المسؤول». وأضافت أن تمكين الشباب من المساهمة في صياغة البرامج الثقافية يُعدّ خطوة أساسية لضمان الاستدامة الثقافية، مشيرةً إلى أن الثقافة الإماراتية تزداد حضوراً كلما ارتبطت بالإنسان وقضاياه اليومية، وكلما حافظت على جذورها في مواجهة تسارع العولمة الثقافية. وأشارت إلى أن المراكز الثقافية كان لها دور بارز في تبني موهبتها وصقلها وتحفيزها من خلال الفعاليات والندوات التي كان ينظمها المجمع الثقافي في أبوظبي، مؤكدةً أنها تفخر بكونها كاتبة إماراتية أثبتت حضورها بفضل دعم تلك المراكز، وأعربت عن اعتزازها باختيارها كأول إماراتية تُشارك عضو تحكيم في جائزة شومان العريقة في الأردن. التنوّع والوعي د.إيمان الهاشمي، المؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية المناعة الذاتية (الأولى من نوعها في الوطن العربي)، وأول ملحّنة وموزّعة موسيقية ومؤلفة أوركسترالية إماراتية، وحاصلة على شهادة دولية من منظمة عالمية، إلى جانب كونها عازفة بيانو ورسامة وكاتبة وشاعرة وسيناريست، قالت في مداخلتها: «الثقافة ليست نصّاً أو لحناً فحسب، بل هي نبض المجتمع الذي يعزف سيمفونية التنوّع والوعي. وعندما تحتضن المراكز الثقافية الإبداع الفني، فإنها تحتضن الإنسان في أرقى تجلياته، وتحمي الذائقة من التشويه وتوجّهها نحو الجمال». وأضافت أن الإمارات وطن الإبداع، وأنه لولا دعم واحتضان المراكز الثقافية لموهبتها منذ طفولتها، لما وصلت إلى منصّات التكريم ونالت الجوائز. وأكدت أن هذا الاحتضان هو أساس استدامة العطاء الثقافي. نقاشات شهدت الجلسة نقاشات ثرية تناولت مفهوم الاستدامة الثقافية وسبل دعم أهداف التنمية المستدامة في بعدها الثقافي، إلى جانب استعراض ملامح التجربة الإماراتية الرائدة في إدارة العمل الثقافي من مرحلة التكوّن إلى التمكّن، بما يعكس الرؤية الوطنية في جعل الثقافة ركناً أصيلاً من أركان التنمية الشاملة. وفي ختام الجلسة، خرج المشاركون بعدد من التوصيات النوعية، من أبرزها: تعزيز التكامل بين المراكز الثقافية لتبادل الخبرات، إدماج مفاهيم الاستدامة الثقافية في الخطط الاستراتيجية، توظيف التحول الرقمي في تطوير البرامج والفعاليات، دعم الشراكات مع المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية، وتمكين الشباب من صياغة مبادرات ثقافية جديدة. وجرى التأكيد على أهمية إنشاء مختبرات ثقافية مستدامة تعزز حضور الإبداع الإماراتي في الداخل والخارج، والاهتمام بالبحوث والدراسات المستقبلية المتعلقة بالثقافة والسياسات الثقافية وأثرها على المجتمع والأسرة. وأوضحت منى العامري أن المركز سيُصدر تقريراً ختامياً يتضمن أبرز المداخلات والتوصيات، تمهيداً لرفعها إلى وزارة الثقافة لتوظيفها في تطوير البرامج المستقبلية، مؤكدةً أن الثقافة في الإمارات مشروع وطني مستدام، وأن المراكز الثقافية ستظلّ مناراتٍ لصناعة الفكر وصون الهوية وبناء الإنسان.