سياسة / اليوم السابع

أوقاف : السُّنة الوحى الثانى ونظامها التشريعى مركوز على العقيدة

قال الدكتور يوسف بلمهدى، الشؤون الدينية والأوقاف بالجزائر، إن ما فعله المتأخرون من المالكية ابتداءً من العلَّامة ابن أبى زيد القيروانى فى تأليف الفقه على ثلاث شعب: عقيدة، وأحكام، وسلوك، هو منهج قرآنى أصيل، تظهر فيه مسحة الجلال والجمال والكمال، إنه كلام الله الذى {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (سورة فصلت: الآية 42).

وتابع أنه لا يخفى ما فى القصص القرآنى من تقرير لمبادئ الأخلاق السامية، والسلوكيات الراقية كالحياء الوارد فى قصة ابنتى شعيب عليه السلام، والتواضع وعدم الخيلاء فى وصايا لقمان لابنه، وغير ذلك ممَّا يشكل للمجتمع نسيجه المتماسك. ويقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ} (سورة البقرة: الآية 178)، وهذه الآية الأخيرة وحدها جماع الخير الكثير ومعقد الفضل النمير، رغم أنها فى باب القصاص والجنايات، فتأمَّل كم جمعت من دلالات الأخلاق والتوجيهات السلوكية وأعمال البر ما ينتزع منك التسبيح انتزاعًا، والسجود بين يدى الله خشوعًا واتباعًا، انظر إلى الكلمات التالية: العفو، الأخوة، المعروف، الأداء، الإحسان، التخفيف، الرحمة.

جاء هذا خلال كلمة ألقاها فى جلسة الوفود المنعقدة ضمن فعاليات مؤتمر دار الإفتاء العالمي التاسع، مشيرًا إلى أن السُّنة النبوية الشريفة وهى الوحى الثانى، جعلت نظامها التشريعى مركوزًا على العقيدة والأحكام والسلوك، كما أنه فى حديث النعمان بن بشير رضى الله عنهما دليل هذه الوحدة المتماسكة فى النظام الإسلامى، يقول سمعت رسول الله r يقول: «إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ، كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أن يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُه، ألا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِى الْقَلْب».

وأضاف أن هذا الربط العجيب منه بين المعاملات المادية والقلب، بين الجانب الفقهى المالى والمادى والجانب التربوى السلوكى لمن أكبر الدلالات على أن التشريع لا يمكن أن يكون فى معزل عن تربية النفس وتزكيتها بالأخلاق سواء تعلق الأمر بالأخلاق مع الله أو مع الخلق.

وأوضح أن مفهوم الفقه فى الصدر الأول مجموع أحكام الدين، لذلك فالفقهاء أفضل من تلقَّوا الخير ونالوا الفضل للحديث: « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ»، وقد شرح معنى الدين حديث جبريل فى ثلاثية تشريعية متكاملة تجمع العقيدة والأحكام والأخلاق، حيث كانت الأسئلة عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال رسول الله للصحابة حين استغربوا سلوك هذا السائل الذى لم يعرفوه: «‌هَذَا ‌جِبْرِيلُ جاءكم يُعَلِّمُكُمْ دِينِكُمْ» إنه الدين بكماله وتمامه، لا مجرد أحكام تتعلق بباب من أبواب الشريعة. فالمراد بالفقهاء فى قول ابن عابدين: «العالمون بأحكام الله تعالى اعتقادًا وعملًا لأن تسمية الفروع فقهًا حادثة».

وأشار الوزير يوسف بلمهدى إلى أن إصدار الفتوى بوجه يسقط الكلفة، ويبرئ الذمة دون مراعاة مقصد الحكم من قبول، ومعراج، ووصول، جعل الناس تنسلخ من الدين وجوهره، وإن تمسكوا بشكله ومظهره، وهذا لعمرى قاصمة الظهر، وداهية الدواهي.

وكلنا يعلم أهل النفاق الذين نبتوا فى مجتمع المدينة نبت الشوك فى حدائق الورد، حيث يقوم الصحابة بأعمالهم، ويقوم أولئك بأعمالهم، ولكن شتان بين كسلان ونشيط، وبين راضٍ وكارهٍ، وبين مستسلم ومتضمر، وبين متشوق محب وساخط خب {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة الزمر: الآية 29).

وتابع: أن هذا التناقض المقيت الظاهر والباطن، وبين النظرى والتطبيق، هو الذى أتى على روح الشريعة فأزهقها وتلها للجبين، ولا أبعد أو أغرب حين أقول لقد تعامل الكثير مع الفقه بهذا الشكل فغدا الزواج امتلاكَ بضع لمتعة، بينما نصَّت آى الكتاب على رباطه الوثيق، ومغزاه العميق، من إشاعة ود، وإقامة سكن وإدارة رحمة. وغدا كتاب "الحج" دليل سياحة يصف الأودية والشعاب وقلما يأخذ السالك إلى روح المناسك... وهكذا.

فحقيقة الفقه أنه انسجام بين روح النص التشريعى ومنظومة القيم والأخلاق، وغياب هذا الانسجام يولِّد فقهًا أعرج تعسفيًّا، يدوس على منظومة القيم، ويؤدى إلى نتائج غير محمودة على أرض الواقع، ويصير مثارًا للجدل، بل محل سخرية لدى المسلمين وغير المسلمين.
فالفتوى لصيقة بالأخلاق ضميمة للمكارم لا تنفصم عنها بحال، إذ المقصد الكلى من بعثة النبى r وغاية الرسالة هى إتمام مكارم الأخلاق: ((إنما ‌بُعِثْتُ ‌لأتمم ‌صالحَ ‌الأخلاقِ)) وفى رواية: ((إِنَّمَا ‌بُعِثْتُ ‌لأُتَمِّمَ ‌مَكَارِمَ ‌الأَخْلَاقِ))، ولا بيان للأحكام من دونها.

وأضاف أن الإنسان اجتهد منذ أن عرف ضرورة الحياة فى الاجتماع، وإقامة العلاقات مع محيطه فى سن القوانين على اختلاف الفلسفات والرؤى للحياة والرفاه، وسواء كانت تلك القوانين بدائية أو غير ذلك فإن الفكر الإنسانى سعى فى تحقيق مصلحته من خلال التشريعات التى كان يطمح إلى الوصول من خلالها إلى العدالة وضبط المصالح المتشابكة، حتى يستمر العمران، وتقوم الحياة، ولكنه عندما أخطأ البصيرة، وعمى عن الوحى ضل وأضل.

ولفت النظر إلى أن فقهاء الإسلام ذهبوا إلى أن النظام الأخلاقى يتصف بصفة الإلزام التى قصرها الفكر القانونى على القاعدة القانونية فحسب، حيث رتب عليها الجزاء، أما القاعدة الأخلاقية فاعتبروها مجرد التماس ورجاء، لا يمكن تقنينها، فيقول الدكتور دراز فى هذا الشأن: «إن فكرة الالتزام هى القاعدة الأساسية، والعنصر الجوهرى الذى يدور حول كل النظام الأخلاقى، فإذا لم يعد هناك التزام فلن يكون هناك مسؤولية، وإذا عدمت المسؤولية فلا يمكن أن تسود العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام وتعم الهمجية».
فلهذا السبب وغيره كان النظام السلوكى والأخلاقى رديفًا فى التأليف الفقهى الإلزامى، إذ ميزة القرآن التى لا تجارى أنه ارتفع بالأخلاق إلى الواجب الذى يتحتم الالتزام به لذاته، فهو نظام مرتبط بالعقيدة، والأخلاق صمام العقيدة.

كما أكد أن تماسك منظومة التشريع الإسلامى جعلت كثيرًا من علماء الغرب يذعنون لسموه، ويخضعون لجلاله، يقول ول ديورانت: «كانت مبادئ المسلمين الأخلاقية وشريعتهم وحكومتهم قائمة كلها على أساس الدين، والإسلام أبسط الأديان كلها وأوضحها، وأساسها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
موضحًا أن هذا التماسك المقصود يؤيده التكاثف المنضود بين أحكام الشرع وما ذكره فيليب حتى: «الإسلام منهج الحياة... يتألف من ثلاثة جوانب أساسية: الجانب الدينى والجانب السياسى والجانب الثقافى، هذه الجوانب الثلاثة تتشابك وتتفاعل وربما انقلب بعضها إلى بعض مرة بعد مرة من غير أن نلاحظ ذلك»، ثم إننا لو درسنا ما وصل إليه الفكر القانونى اليوم فيما يتعلق بحقوق الإنسان نجده قد تحول من الحديث عن كيان الإنسان إلى كرامة الإنسان، والكرامة لا يمكن فهمها إلا فى ضوء الأخلاق والمبادئ السلوكية الراقية.

وفى ختام كلمته أكد أن الفقه الإسلامى قد راعى قيمة الأخلاق وأعطاها ما تستحق من الدراسة والبيان، حتى إنه قد جعل الحديث عنها بنفس القوة التى يتحدث فيها عن الجانب التشريعى إذ لا كرامة للإنسان دون عقيدة وأخلاق، بل قد صان هذه الكرامة حتى مع الأعداء ولكن برباط الأخلاق والرقابة الإلهية النابعة من عقيدة التوحيد، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ } (سورة المائدة: الآية 8)، وفى مجال المعاهدات الدولية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ أن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (سورة النحل: الآية 91).

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة اليوم السابع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من اليوم السابع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا