كتبت أسماء نصار
الإثنين، 06 أكتوبر 2025 01:37 معندما نتحدث عن حرب أكتوبر 1973، تقفز إلى الأذهان صور الجنود المصريين على ضفاف القناة، وأصوات المدافع وهى تدك حصون خط بارليف، غير أن المشهد الكامل لا يكتمل دون النظر إلى الأدوار غير المباشرة، التي لعبتها مؤسسات مدنية في الدولة، وفى مقدمتها وزارة الزراعة، فرغم أن الوزارة ليست جهازاً عسكرياً، فإنها شاركت بعمق فى معركة العبور عبر محورين أساسيين، المساهمة فى خطة الخداع الاستراتيجي، وتأمين الاحتياجات من الغذاء والسلع الأساسية، وبين هذين المحورين، تتكشف لنا قصة مثيرة عن كيفية تسخير الدولة بكل مؤسساتها لخدمة هدف التحرير.
منذ هزيمة 1967، أدركت القيادة المصرية أن أي حرب قادمة تحتاج إلى عنصر المفاجأة، فقد كان الجيش الإسرائيلي يتباهى بتحصيناته على طول القناة، بينما كانت أجهزته الاستخبارية على قناعة بأن مصر لن تشن حرب قبل سنوات طويلة، فى هذا المناخ، صاغت هيئة العمليات خطة متكاملة للخداع الاستراتيجى، تمثلت في إجراءات مدروسة لإخفاء النوايا القتالية، وإيهام العدو بأن ما يجري مجرد أنشطة مدنية أو تدريبات عادية.
وهنا برز دور وزارة الزراعة كإحدى الواجهات المدنية التى تم توظيفها بدهاء، فقد جرى استيراد مضخات مياه عملاقة بحجة استخدامها فى مشروعات الرى واستصلاح الأراضى، بينما كان الهدف الحقيقي هو توظيفها فى اقتحام خط بارليف، فهذه المعدات – التى ظهرت على الأوراق كجزء من خطط زراعية – كانت فى الواقع الركيزة الأساسية لفكرة استخدام المياه لهدم الساتر الترابى.
ولم يقتصر الأمر على المعدات، بل إن الوزارة تحركت بمرونة لتبرير وجود ناقلات ومعدات ضخمة بالقرب من القناة، حيث أُعلن أن الأمر يتعلق بتجارب رى ومشروعات زراعية جديدة، وهو ما جعل الوجود المكثف للمضخات والقوارب يبدو طبيعياً أمام أعين أجهزة المخابرات الإسرائيلية.
لكن الخداع وحده لم يكن كافياً، فالقضية الجوهرية كانت إيجاد حل عملى لاختراق الساتر الترابى الذى أقامه الإسرائيليون شرق القناة، هذا الساتر كان يتكون من ملايين الأمتار المكعبة من الرمال المدموكة بزاوية انحدار حادة، بحيث يصعب تسلقه أو اختراقه بالمدرعات، كل الحلول التقليدية من متفجرات ومدافع ثبت فشلها فى التجارب الأولى.
لم تكن التجارب محصورة فى المواقع العسكرية المغلقة، بل استخدمت أيضاً ترعة الإسماعيلية في بعض الاختبارات، تحت غطاء الأنشطة الزراعية، كانت الترعة ذات طبيعة مناسبة لتجريب أسلوب الضخ ونقل الطلمبات على قوارب خفيفة، بما يتيح محاكاة الظروف الحقيقية للعبور، وبذلك تحولت البنية التحتية المدنية – الترع والقنوات – إلى مسرح تدريبي غير معلن، بعيداً عن أعين المراقبة الإسرائيلية.
هذا الاستخدام الذكي أظهر مرونة العقل المصرى فى استغلال الموارد المتاحة، كما عمق من عملية التضليل، إذ لم يكن من المتصور أن ترتبط أنشطة زراعية وتجريبية بأكبر عملية عسكرية فى تاريخ المنطقة الحديث.
مع بدء ساعة الصفر في السادس من أكتوبر 1973، دخلت الخطة حيز التنفيذ، فقد نقلت مئات المضخات إلى ضفة القناة، وبدأت عملية التجريف المائى لفتح الثغرات فى الساتر، وخلال ساعات قليلة، انهار ما كان يوصف بأنه "المانع الذى لا يقهر".
فى هذا السياق، برزت المزرعة الصينية – وهى منطقة شرق القناة سميت بهذا الاسم بسبب معدات زراعية صينية كانت موجودة بها – كأحد المواقع التى شهدت معارك شرسة بين القوات المصرية والإسرائيلية، ورغم أن المزرعة لم تكن موقعاً للتجارب قبل الحرب، فإنها جسدت رمزاً لارتباط الأرض الزراعية بالميدان العسكري، إذ تحولت حقولها إلى ساحة مواجهة حاسمة أوقفت تقدم القوات الإسرائيلية وأثبتت قدرة المقاتل المصرى على الصمود.
بعيداً عن خطة الخداع والجانب الهندسي، كان على الدولة أن تضمن استمرار الحياة الطبيعية للمواطنين وعدم تعرض الجبهة الداخلية لأزمات غذائية خلال الحرب، هنا جاء دور وزارة الزراعة فى محور ثانٍ لا يقل أهمية، تأمين السلع الغذائية.
عملت الوزارة على تخصيص جزء من إنتاج المزارع الحكومية والهيئات التابعة لها لصالح القوات المسلحة، فقد جرى توفير اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه للجيش عبر شبكات إمداد منظمة بالتعاون مع هيئة الإمداد والتموين العسكرى، كما نظمت عمليات التخزين والتبريد والنقل لضمان وصول الإمدادات بشكل آمن ومنتظم.
إلى جانب ذلك، ساهمت الوزارة فى وضع تركيب محصولى صارم خلال سنوات الاستعداد للحرب، بما يضمن إنتاج كميات كافية من القمح والذرة والمحاصيل الاستراتيجية، لتأمين قوت المصريين وتقليل الاعتماد على الاستيراد، كان الهدف أن يظل الشعب صامداً اقتصادياً واجتماعياً، فلا يشعر بالانكسار أو العجز، بل يشارك معنويًا وماديًا في معركة التحرير.
اعتمدت وزارة الزراعة في هذه الفترة على نظام التخزين طويل الأجل، حيث استحدثت صوامع وغرف تبريد مرتبطة بالمجمعات الاستهلاكية، ومن خلال التعاون مع وزارة التموين، جرى توجيه السلع الأساسية إلى المواطنين بأسعار مدعومة، لتفادى أى موجة غلاء قد تؤثر على الروح المعنوية.
كما أُنشئت آليات لتوزيع الإنتاج الزراعى على الجبهات المختلفة، حيث حصلت قوات العبور على حصص غذائية كافية، بينما لم يحرم المواطن في القاهرة أو الدلتا أو الصعيد من حصته اليومية، هذا التوازن الدقيق بين تلبية احتياجات الجيش والمجتمع يعكس نجاح وزارة الزراعة فى أداء مهمتها الوطنية.
إن استعراض هذا الدور يكشف أن وزارة الزراعة لم تكن مجرد وزارة لإنتاج الغذاء فقط فى تلك المرحلة، بل كانت جزءاً من آلة الدولة الشاملة للحرب، فقد أسهمت بذكاء فى الخداع الاستراتيجي، وساهمت فى توفير غطاء لواحدة من أهم الابتكارات العسكرية فى القرن العشرين، استخدام المياه كسلاح، كما ضمنت استقرار الجبهة الداخلية عبر سياسات إنتاج وتوزيع غذائى صارمة.
وبالنظر إلى تفاصيل قصة المهندس زكي باقى، وتجارب الترع والقنوات، ثم معركة المزرعة الصينية، نجد أن العلاقة بين الأرض والماء والزراعة والحرب قد تداخلت بشكل غير مسبوق، لتنتج نصراً أعاد لمصر كرامتها، وللعرب ثقتهم فى إمكانية استعادة الأرض المحتلة.
حرب أكتوبر لم تكن مجرد مواجهة عسكرية فقط، بل كانت ملحمة شعبية ووطنية شاركت فيها كل مؤسسات الدولة، وفى قلب هذه الملحمة، برزت وزارة الزراعة كجسر يربط بين الخبز والسلاح، بين الترعة والساتر، وبين المزرعة والجبهة، ولعل هذا ما يجعلنا اليوم ننظر بتقدير عميق إلى ذلك الدور الخفى الذى لعبته الوزارة فى صناعة النصر، والذى يظل جزءاً أصيلاً من ذاكرة الوطن.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة اليوم السابع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من اليوم السابع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.