كتب : جمال عبد الناصر
الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025 10:00 صمحمود ياسين يشبه المشهد الأول في فيلم لا يُنسى؛ حضوره يسبق كلماته، وصوته يهب الشخصية حياة أخرى، كأن اللغة العربية حين تنطق على لسانه تستعيد بهاءها القديم، فهو لم يكن ممثلاً يمرّ أمام الكاميرا، بل شاعراً في هيئة فنان، يكتب بمخارج الحروف ملامح أدواره، ويمنح للصمت عمقاً يوازي طول الجملة.
في زمن ازدحمت فيه الوجوه وقلَّت الملامح، ظل محمود ياسين نموذجاً للفنان الذي يجمع بين الموهبة والثقافة، بين الالتزام الأخلاقي والجمال الفني، بين وعي المسرح ورهافة السينما، فهو نجم لم تُنحِه الأضواء عن جوهر الفن، بل ظل طوال مسيرته يبحث عن الحقيقة خلف الشخصية، وعن الإنسان خلف الدور، ليصبح واحداً من أكثر الوجوه صدقاً وتأثيراً في ذاكرة المشاهد العربي.
وفي ذكرى رحيله اليوم في الرابع عشر من أكتوبر، يعود اسمه إلى الواجهة كأحد الرموز التي جسّدت المعنى الحقيقي للفنان المصري والعربي الواعي بقيمة ما يقدم، والملتزم بفنه كرسالة إنسانية وثقافية، فمحمود ياسين لم يكن مجرد نجم شاشة، بل حالة فنية متكاملة امتدت بين المسرح والسينما والتلفزيون، وامتلك من الموهبة والحضور والثقافة ما جعله أحد أعمدة جيله وأكثرهم قدرة على المزج بين الكاريزما والعمق الإنساني في الأداء.

محمود ياسين
بدأت مسيرة محمود ياسين من خشبة المسرح القومي بعد تخرجه في كلية الحقوق، لكنه سرعان ما انحاز إلى الخشبة بوصفها مختبراً حقيقياً للتمثيل، وقدم عشرات المسرحيات التي شكلت الوعي الجمعي لجيله، مثل "وطني عكا" و"عودة الغائب" و"سليمان الحلبي" و"ليلة مصرع جيفارا"، وغيرها من الأعمال التي أكدت قدرته على التعبير بلغة الجسد والصوت والوجدان معاً، ولم يكن ياسين ممثلاً يؤدي أدواراً محفوظة، بل كان يعتلي الخشبة كمن يعيش حالة فكرية كاملة، يبحث من خلالها عن جوهر الشخصية ومعناها الاجتماعي والإنساني.
توليه إدارة المسرح القومي في أواخر الثمانينيات جاء تتويجاً طبيعياً لفنان يرى المسرح بيتاً ومسؤولية، لا مهنة عابرة، فكان حريصاً على إعادة روح الانضباط والتجريب والإنتاج النوعي إلى أهم مؤسسة مسرحية في مصر، وأنتج مسرحية من روائع أعمال المسرح القومي وهي مسرحية " أهلا يا بكوات " التي جمعت الفنانين عزت العلايلي وحسين فهمي وأخرجها عصام السيد والنص كتبه لينين الرملي.

الفنان الكبير محمود ياسين
أما في السينما، فقد استطاع محمود ياسين أن يفرض حضوره منذ بداياته الأولى بأدوار ثانوية في أفلام مثل "الرجل الذي فقد ظله" و"شيء من الخوف"، إلى أن جاءت انطلاقته الكبرى مع فيلم "نحن لا نزرع الشوك" أمام شادية، ليصبح بعدها واحداً من أبرز نجوم السبعينيات والثمانينيات، وكان صوته العميق ونطقه الفصيح وملامحه الهادئة سلاحه الخاص في التعبير عن الانفعالات الداخلية للشخصيات، مما منحه تميزاً عن أبناء جيله.
لم يكن فتى الشاشة الوسيم الذي يعتمد على الجاذبية وحدها، بل فناناً يمتلك حساً درامياً دقيقاً يجعل مشاهده أقرب إلى لحظات تأمل إنساني أكثر منها تمثيلاً، وتميز محمود ياسين أيضاً بقدرته على التفاعل مع النجمات الكبار في أروع مراحل السينما المصرية، فكوّن ثنائيات ناجحة مع فاتن حمامة وشادية وسعاد حسني ونجلاء فتحي ونادية لطفي، ويكفي أن نتأمل حضوره في فيلم "الخيط الرفيع" أو "أفواه وأرانب" أمام فاتن حمامة لنرى كيف استطاع أن يكون شريكاً فنياً حقيقياً لها لا مجرد ممثل يقف إلى جوارها.
كان يعرف تماماً كيف يوازن بين رهافة الإحساس وقوة الموقف، وكيف يترك بصمته في المشهد دون أن يطغى على من أمامه، وهي سمة لا تتحقق إلا لمن يمتلك ثقة كاملة في أدواته وفهمه العميق لفن التمثيل، ولأن الفنان الحقيقي لا يقف عند حدود التجسيد، فقد امتلك محمود ياسين وعياً خاصاً بدور الفن في تشكيل الوعي الجمعي، وانحاز في كثير من أفلامه إلى قضايا الإنسان البسيط، وإلى صورة المصري المكافح الذي يصطدم بواقع اجتماعي أو سياسي لكنه لا يفقد إنسانيته، وفي "الحرافيش" و"العاطفة والجسد" و"الجلسة سرية" وغيرها من الأعمال، نرى وجهاً آخر للفنان الذي يضع القيم قبل الشهرة، ويتعامل مع السينما كوثيقة اجتماعية لا كسلعة ترفيهية.

مع فاتن حمامة
ورغم كثرة مشاركاته في بعض مراحل مشواره، التي جعلته يظهر في أفلام متفاوتة المستوى، فإن هذا لم ينتقص من مكانته الفنية، بل أكد التحدي الذي يواجهه أي نجم يحاول الحفاظ على حضوره في صناعة سريعة التبدل، فمحمود ياسين ظل حتى سنواته الأخيرة محافظاً على وقاره الفني، مبتعداً عن الابتذال، متمسكاً بصورة الفنان المثقف الذي يحترم جمهوره، وهو ما جعله يحتفظ بمحبته في قلوب الناس حتى بعد أن غاب عن الشاشة بسبب المرض.
رحل محمود ياسين، لكن صوته لا يزال يملأ الذاكرة بجرس لغوي لا يخطئه السمع، وصورته على الشاشة لا تزال شاهدة على زمن كان فيه التمثيل حواراً بين الموهبة والثقافة، وكان نموذجاً للفنان الذي أدرك مبكراً أن الخلود في الفن لا يُصنع بالشهرة وحدها، بل بما يتركه من أثر في الوعي، وبين المسرح القومي الذي قاده بإيمان، والسينما التي منحها أجمل سنوات عمره، يبقى محمود ياسين أحد الأعمدة التي سيظل التاريخ الفني المصري والعربي يقرأها بإجلال وحنين.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة اليوم السابع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من اليوم السابع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.