- لطالما شهدت ساحات الأعمال نزالات حامية الوطيس، حفرت أسماءها بأحرف من نور في سجلات التاريخ، كتلك المنافسة الشرسة التي جمعت بين "كوكاكولا" و"بيبسي"، أو الصراع المحتدم بين عملاقي صناعة الطائرات "إيرباص" و"بوينج". - غير أن الحكاية التي بدأت فصولها في بلدة ألمانية وادعة بين شقيقين، سرعان ما تحولت إلى أسطورة دموية، قوامها الغضب العارم، والخيانة المرة، والابتكار. - فملحمة "أديداس" و"بوما" لم تكن مجرد معركة تجارية تقليدية، بل كانت أتونًا لنزاع عائلي ضروس، سرعان ما تجسد في صورة من أشد صور الصراع ضراوة في تاريخ العلامات التجارية قاطبة. البداية: من غرفة غسيل متواضعة إلى حلم رياضي طموح - وُلد أدولف "آدي" داسلر عام 1900، وشقيقه الأكبر رودولف عام 1898، في بلدة هيرتسوجن آوراخ البافارية الهادئة. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام - وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ووسط حالة من الفقر والدمار التي خيمت على البلاد، قرر آدي استغلال بقايا الجلود والملابس العسكرية لصناعة أحذية رياضية متينة. - وفي عام 1924، انضم إليه شقيقه رودولف، ليؤسسا معًا "مصنع أحذية الأخوين داسلر"، حيث تولى آدي مسؤولية التصميم والإبداع، بينما ركز رودولف جهوده على المبيعات والتسويق. - وسرعان ما لاقت منتجاتهما رواجًا واسعًا ونجحت في لفت الأنظار إليها، خاصة بعد أن استخدم العداء الأمريكي من أصل إفريقي جيسي أوينز أحذيتهما المميزة في أولمبياد برلين عام 1936، محققًا أربع ميداليات ذهبية مدوية، ومسقطًا بفوزه أسطورة "التفوق الآري" الزائفة التي روّج لها النازيون آنذاك. - ورغم البداية المتواضعة في غرفة غسيل قديمة، سرعان ما حظيت منتجاتهما بإعجاب الرياضيين الألمان، بمن فيهم المدرب الأولمبي الذي أصبح من أوائل المتحمسين لها. النازية والحرب: توترات سياسية وشخصية متصاعدة - انضم الأخوان إلى صفوف الحزب النازي، ولكن بدرجات متفاوتة من الحماس والالتزام؛ فقد تعامل آدي مع الحزب كفرصة سانحة لترويج منتجاته على نطاق أوسع، أما رودولف فكان أشد تحمسًا واقتناعًا بمبادئ الحزب. - زاد هذا التباين السياسي الواضح، بالإضافة إلى الصراعات الخفية حول النفوذ العائلي وتوزيع المسؤوليات بينهما، من حدة الخلاف المتنامي بين الشقيقين. - تعمّقت هذه الخلافات بشكل ملحوظ خلال سنوات الحرب العالمية الثانية العصيبة، خصوصًا عندما رفض آدي بشكل قاطع توظيف أبناء شقيقته، الأمر الذي أثار حفيظة رودولف واستياءه الشديد. - وتفاقم الوضع بشكل حاد خلال إحدى الغارات الجوية التي استهدفت المنطقة في عام 1943، عندما فسّر رودولف تعليقًا عابرًا صدر عن آدي على أنه إهانة شخصية موجهة إليه وإلى عائلته، وهو ما شكّل نقطة اللاعودة في علاقتهما المتدهورة. الانقسام المرير: ميلاد عملاقين صناعيين متنافسين - وفي عام 1948، وبعد سلسلة من الاتهامات المتبادلة بالعمالة للنظام النازي، وصل الخلاف بين الأخوين إلى ذروته، وانفصلا نهائيًا في خطوة غير مسبوقة. - وعلى إثر هذا الانفصال، أنشأ رودولف شركته الخاصة التي أطلق عليها اسم "بوما"، بينما أسس آدي شركته الشهيرة "أديداس". - وهكذا، وُلدت شركتان عملاقتان متنافستان في بلدة واحدة، على ضفّتي نهر واحد، ولكن يفصل بينهما بحر واسع وعميق من الخلافات والضغائن. - وسرعان ما سعت أديداس إلى التوسع السريع في الأسواق، متحالفة مع العديد من المنتخبات الوطنية المرموقة، بينما ركّزت بوما استراتيجيتها على توقيع عقود حصرية مع أبرز الرياضيين العالميين. "حروب الأحذية": تنافس محموم يمتد إلى كافة الميادين - في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تحولت المنافسة الشرسة بين الشركتين إلى ما يشبه حربًا باردة ضروسًا. - فقد حققت أديداس نجاحًا ساحقًا من خلال رعايتها للمنتخب الألماني الذي فاز بكأس العالم عام 1954، بينما برزت بوما من خلال دعمها لنجوم رياضيين لامعين مثل الأسطورة البرتغالية أوزيبيو والجوهرة البرازيلية بيليه. - وفي بطولة كأس العالم عام 1970، تخلّت بوما عن اتفاق غير معلن مع أديداس يقضي بعدم التنافس على توقيع عقد مع بيليه، ونجحت في الظفر بتوقيعه في صفقة تاريخية كانت بمثابة لحظة ذروة في عالم - التسويق الرياضي، خاصة عندما طلب بيليه من الحكم وقتًا مستقطعًا لربط حذائه أمام أنظار ملايين المشاهدين حول العالم... وهو الحذاء الشهير "بوما كينج". من أروقة المحاكم إلى ساحات الملاعب: صراع لا يعرف الهدوء - لم تتوقف المنافسة الحادة بين الشركتين عند حدود الأسواق التجارية، بل امتدت لتشمل أروقة المحاكم، حيث تبادل الطرفان الاتهامات الصريحة بانتهاك براءات الاختراع. - فكل ابتكار تقني جديد في عالم صناعة الأحذية الرياضية كان يُقابل بتحرّك قانوني مضاد وسريع من الطرف الآخر. - وفي مدينة هيرتسوجن آوراخ نفسها، أصبح الانقسام بين الشركتين ملموسًا وواضحًا للعيان: فمن كان يعمل في شركة بوما كان يتجنب التعامل أو التواصل مع أي شخص يعمل في شركة أديداس. - بل إن الفرق الرياضية المحلية كانت مدعومة بشكل كامل من إحدى الشركتين، وانقسم السكان المحليون بولائهم وانتمائهم بشكل حاد، حتى في أدق تفاصيل حياتهم اليومية. الجيل الثاني: مصالحة محدودة وابتكار متجدد - مع انتقال زمام القيادة في الشركتين إلى الجيل الثاني من العائلة، بدأت تظهر بعض مظاهر التقارب الحذر. - فقد أسس هورست، ابن آدي، فرعًا ناجحًا لشركة أديداس في فرنسا، بينما قاد آرمين، ابن رودولف، مسيرة توسع شركة بوما في أسواق جديدة. - ورغم أن المصالحة الكاملة بين العائلتين لم تتحقق قط، فإن الاحترام المتبادل بدأ يظهر تدريجيًا بين أفراد الجيل الثاني. - وفي ثمانينيات القرن الماضي، تحولت الشركتان إلى شركات عامة مدرجة في البورصة، لتدخل بذلك مرحلة جديدة من التطور المؤسسي والتنافس العالمي، خاصة مع صعود علامات تجارية رياضية جديدة وقوية مثل "نايكي". من مجرد أحذية رياضية إلى أسلوب حياة متكامل - في العقود الأخيرة، لم تعد أديداس وبوما مجرد شركتين متخصصتين في صناعة الأحذية الرياضية فحسب، بل أصبحتا تمثلان نمط حياة رياضي متكامل، يجمع ببراعة بين عالم الرياضة والموضة والثقافة الشعبية. - ومع الانتشار الواسع لمفهوم اللياقة البدنية كجزء أساسي من الحياة اليومية، استطاعت الشركتان التكيف بذكاء مع هذه التحولات العميقة، والبقاء في صدارة السوق العالمي شديد التنافسية. - ورغم أن الشركتين لم تعودا تحت الإدارة المباشرة للعائلة المؤسسة، فإن الإرث التاريخي لا يزال واضحًا وجليًا في مقرهما الرئيسيين بمدينة هيرتسوجن آوراخ، التي بقيت رمزًا فريدًا لصراع لا يشبه أي صراع آخر في تاريخ العلامات التجارية. خاتمة: حينما تمخضت الخصومة الشديدة عن أزهى صور الابتكار - إن قصة أديداس وبوما ليست مجرد حكاية منافسة بين شركتين تجاريتين؛ بل هي مرآة عاكسة لتاريخ حافل بالعناد والإصرار، والابتكار المستمر، والعلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة. - ولولا هذا الصراع العائلي المرير، ربما لم يكن قطاع صناعة الأحذية الرياضية ليشهد هذا التطور الهائل والمتسارع الذي نعرفه اليوم. - فمن مصنع صغير متواضع في بلدة ألمانية مغمورة إلى علامتين تجاريتين عالميتين تتنافسان بشراسة على قمة الصناعة... إنها بحق حكاية فريدة تُثبت أن أعظم الابتكارات والإنجازات قد تولد أحيانًا من رحم أعمق الخلافات وأشدها ضراوة. المصدر: كورتر