يُعدُّ الحصول على ائتمان ميسور التكلفة ركيزة أساسية لتعزيز القدرة على الصمود الشخصي والتقدم الاقتصادي؛ فهو يُسهم في تمويل الإسكان والتعليم والمشروعات الصغيرة، ويوفر مظلة أمان للحماية من الصدمات المالية. جدير بالذكر أنه على الصعيد العالمي، يفتقر نحو 1.4 مليار شخص بالغ إلى إمكانية الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية بسبب عدم وجود سجل ائتماني لديهم، وهو أمر لا يتحقق إلا بعد حصول الفرد على ائتمان. تعني هذه المعضلة المنطقية استبعاد ملايين الأشخاص من النظام المالي الرسمي. وهنا تكمن المفارقة: للحصول على ائتمان، تحتاج إلى سجل ائتماني… ولتكوين سجل ائتماني، تحتاج إلى الحصول على ائتمان في المقام الأول! الاستبعاد المالي .. ليس مشكلة الأسواق النامية فقط لا تقتصر هذه المشكلة على الأسواق الناشئة والنامية فحسب، بل تمتد لتشمل الأسواق المتقدمة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث يعاني الملايين من نقص الخدمات المالية؛ إذ يبلغ عدد الأمريكيين الذين ليس لديهم سجل ائتماني أو لديهم سجلات غير قابلة للتصنيف نحو 45 مليونًا، بينما يفتقر حوالي 5 ملايين من سكان المملكة المتحدة إلى سجل ائتماني رئيسي. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام ولكن، ما الحل؟ قد يكون الجواب أمام أعيننا، وفي أكثر الأماكن اليومية بساطة: متاجر البقالة. تبرز بيانات التسوق من محلات البقالة كأحد أقوى مصادر البيانات البديلة لفهم السلوك المالي للأفراد الذين ليس لديهم سجل ائتماني؛ وتتميز هذه البيانات بأربع خصائص تجعلها مصدرًا فريدًا لرصد السلوك المالي الحقيقي. 4 خصائص تميز بيانات التسوق من متاجر البقالة الشمولية - يشتري الجميع مواد البقالة؛ فالتسوّق من أجل المائدة ضرورة كونيّة تتخطّى أسوار التمايزات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والديموغرافية. - وهذا ما يضفي على معطيات مشتريات الغذاء تمثيلاً فريدًا وشاملاً لعموم الناس، وهي ميزة قلّ نظيرها بين مصادر البيانات الأخرى. الحداثة - على النقيض من العديد من مصادر البيانات النمطية، تتجدد بيانات مشتريات الغذاء على الدوام؛ فغالبية المستهلكين يرتادون متاجر البقالة أسبوعيًا، إن لم يكن بوتيرة أسرع. - يمنح هذا الانتظام المطّرد نافذة آنية على سلوك المستهلكين، ممّا يتيح للمؤسسات المالية تقييم الأوضاع المالية الراهنة للأفراد بدقة فائقة. الدقة - تستنبط تحليلات بيانات التسوق من متاجر البقالة دلالات سلوكية دقيقة؛ فعلى سبيل المثال، قد يشير الانتظام في اقتناء الضروريات الشهرية في توقيت ثابت إلى انضباط مالي راسخ. - كما قد تعكس الحساسية تجاه تقلبات الأسعار والإقبال على الاستفادة من الخصومات إدارة مالية حصيفة. - علاوة على ذلك، فإن ارتفاع حصة المواد الغذائية الصحية، وانخفاض نصيب الأطعمة غير الصحية قد يكون مؤشرًا على وعي مالي مسؤول. التكرار - يوفر التواتر المرتفع لعمليات التسوق من محلات البقالة سجلاً زمنياً حافلاً بالمعطيات السلوكية. - يتيح ذلك للنماذج الخوارزمية استجلاء العادات والأنماط والشذوذات المالية المطردة. - وعلى النقيض من نقاط البيانات المنفردة، كطلبات الحصول على القروض، فإن بيانات مشتريات البقالة تبني سجلًا سلوكيًا بمرور الوقت. - في السياق ذاته، كشفت الأبحاث التي أجراها باحثون في جامعة رايس وجامعة نوتردام وجامعة نورث وسترن، تحت عنوان "استخدام بيانات البقالة في قرارات الائتمان"، عن وجود صلة وثيقة بين جملة من المتغيرات، كوتيرة التسوق، والانتظام في الإنفاق، ونوعية المنتجات المختارة، والاستفادة من برامج الخصومات، وملامح المخاطر الائتمانية. - والأهم من ذلك، أن هذه الدراسة قد أظهرت أن هذه الأنماط السلوكية يمكن أن ترتقي بقدرة نماذج الائتمان التنبؤية، ولا سيما فيما يتعلق بالمستهلكين الذين تفتقر سجلاتهم إلى تاريخ ائتماني رسمي. - وبينما ظل هذا النهج حبيس الأدراج في العديد من الأسواق، فقد كانت جنوب أفريقيا هي الدولة الرائدة التي ترجمت هذا المفهوم إلى واقع عملي على نطاق واسع. دراسة حالة من جنوب أفريقيا: إنجاز آمن للخصوصية في مجال الشمول المالي - في جنوب أفريقيا، تحققت الوعود النظرية لبيانات مشتريات البقالة من خلال تعاون رائد بين أكبر سلسلة متاجر بقالة في القارة وبنوكها الكبرى، وكان الهدف من ذلك هو تحديد ما إذا كان سلوك التسوق يمكن أن يكون مؤشرًا موثوقًا للجدارة الائتمانية. - الأمر البالغ الأهمية أن هذه الشراكة بُنيت مع وضع خصوصية المستهلك في صميمها؛ فبدلاً من مشاركة بيانات المستهلكين أو تبادلها، عملت البنوك وسلسلة المتاجر ضمن منصة تعاون بيانات تحافظ على الخصوصية، ومدعومة بتقنيات تعزيز الخصوصية. - مكّنت هذه التقنيات كل طرف من المساهمة ببيانات مجهولة المصدر واستخلاص رؤى مشتركة دون الكشف مطلقًا عن المعلومات الشخصية. - ضمن هذا النهج الامتثال الكامل للوائح الخصوصية الصارمة للبيانات مع إطلاق العنان لرؤى قيّمة. - وباستخدام قدرات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي المدمجة في المنصة، تم تحليل مجموعات البيانات المجهولة المصدر من كلا الطرفين بشكل آمن للكشف عن الأنماط السلوكية. - ومن خلال تحديد سمات التسوق الشائعة بين الأفراد ذوي التاريخ الائتماني القوي، تمكنت البنوك من بناء وتدريب نماذج تنبؤية قادرة على تسجيل الأفراد الذين لم يتم تسجيلهم مسبقًا دون الكشف عن هوياتهم الشخصية على الإطلاق. وقد أحدثت النتائج تحولًا جذريًا:- تم تسجيل 8 ملايين فرد لم يكن لديهم سجل ائتماني من قبل، مما أدى إلى زيادة عدد الأفراد الذين لديهم سجل ائتماني بأكثر من 50% (من مجموعة تضم 15 مليون شخص لم يتم تسجيلهم مسبقًا). - تأهل 3.2 مليون من هؤلاء للحصول على ائتمان ميسور التكلفة، والذين كانوا سيُرفضون في السابق. - شهدت نماذج الائتمان التي تستخدم بيانات مشتريات البقالة ارتفاعًا في معامل جيني بنسبة 41%، مما يشير إلى تحسن كبير في القدرة على التمييز بين المقترضين ذوي المخاطر المنخفضة والعالية.- توقع أحد البنوك زيادة بنسبة 29% في إيرادات الائتمان نتيجة لقدرته على خدمة هذا السوق الجديد. مخطط للشمول المالي - الشاهد هنا أن ما بدأ كتجربة في جنوب أفريقيا أصبح الآن مخططًا قابلاً للتكرار لتعميم الشمول المالي على نطاق عالمي. - وفي عصر تتسارع فيه الابتكارات التقنية وتتغير فيه معايير التقييم التقليدية، لم يعد الشمول المالي حلمًا بعيد المنال، بل بات خيارًا واقعيًا يمكن تحقيقه من خلال حلول ذكية وإنسانية. - ولا شكّ أن الاستفادة من بيانات التسوق اليومية – كبيانات البقالة – تمثل نقلة نوعية في طريقة فهمنا للجدارة الائتمانية، وتمنح الملايين فرصة حقيقية للاندماج المالي وبناء مستقبل أكثر استقرارًا. - لقد آن الأوان لأن نتجاوز المعايير التقليدية التي استبعدت الكثيرين بلا ذنب، وأن نعيد صياغة مفهوم "الملاءة" بناءً على الواقع اليومي للناس، لا على التاريخ الائتماني وحده. - فربما لا يحمل البعض سجلًا مصرفيًا، لكن لديهم سجل حياتي حافل بالمسؤولية والانضباط... وبيانات التسوق تشهد لهم بذلك. المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي