- من المتوقع أن تشهد أكثر من 20% من الوظائف تحولاً جذريًا بحُلول عام 2030، مدفوعًا بعوامل متضافرة تتمثل في تسارع وتيرة الابتكار الرقمي، وتغيّر الخارطة الديموغرافية للمجتمعات، وتوالي الهزات الاقتصادية التي تعيد تشكّيل المشهد العالمي. - ولا شكّ أن هذا الواقع الجديد، الذي بدأت ملامحه تتضح بالفعل، يفرض إعادة النظر في الأساليب التقليدية لاجتذاب الكفاءات المهنية وصقل مهاراتها، الأمر الذي يستدعي صياغة استراتيجيات مبتكرة لضمان توافقٍ أمثل بين ما يمتلكه الأفراد من مهارات وما تتيحه سوق العمل من فرص. نُظم مطابقة الوظائف التقليدية: قِصَر الرؤية وعوائق التقدم - كثيراً ما تعجز نُظم مطابقة الوظائف (Job-matching systems) عن استيعاب مهارات المُرشحين وقدراتهم الكامنة؛ فهي تعتمد، بشكل مفرط، على مُجرد مُطابقة الكلمات المفتاحية والعناوين الوظيفية الجامدة، غافلةً بذلك القيمة الجوهرية لإمكانيات النمو الواعدة، والقدرة على التكيف مع التحولات المُتسارعة في عالم العمل. للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام - وليس غريباً أن يفضي هذا النهج القاصر، الذي عفا عليه الدهر، إلى فجواتٍ عميقة في هيكل المهارات، وإلى فترات بطالة تُثقل كاهل الاقتصاد، وينتج عنه تراجع واضح في مُعدلات الإنتاجية العامة. - علاوة على ذلك؛ يشكل التباين الشديد في تصنيفات المهارات، وندرة البيانات المُنظمة والدقيقة عن سوق العمل معضلةً كُبرى أمام الجهات الفاعلة في هذا المشهد – من حكوماتٍ تسعى للتخطيط، وأصحاب عمل يُحددون الحاجة، ومؤسسات تعليمية تُهيئ الكفاءات – مما يُعيق تبادلهم للمعلومات الواضحة حول الاحتياجات الفعلية للمهارات. - ويُسهم هذا القصور كذلك في إعاقة استجابتهم السريعة والفعّالة للمُتطلبات دائمة التغير والمُتسارعة لبيئة العمل الحديثة. نحو منظومة أكثر ذكاءً وقائمة على المهارات - في عصرنا الراهن، تُعيد التكنولوجيا تشكيل العلاقة بين الإنسان وفرص العمل؛ ومن ثمَّ، باتت الأدواتٌ الثورية كالذكاء الاصطناعي، وتعلّم الآلة، وسلاسل الكتل تُنسج أنظمةً حيويةً تتدفق منها البيانات بغزارة، لتُصبح بوصلةً تُوجه مسارات المهارات الفردية نحو احتياجات سوق العمل بدقةٍ متناهيةٍ ومواءمةٍ قلّ نظيرها. خارطة طريق تقنية تُرشد مسار خدمات التوظيف - في السياق ذاته، يُقدم تقريرٌ يحمل عنوان "مواءمة الكفاءات لوظائف الغد"، والذي أثمر عن تعاونٍ بين المنتدى الاقتصادي العالمي وشركة كابجيميني نُشر في عام 2025، دليلاً استرشادياً مُكوناً من خمس محطاتٍ رئيسية، يرسمُ معالم الطريق أمام خدمات التوظيف العامة لتوظيف التكنولوجيا بأقصى درجات الفاعلية. أبرز مساهمات البيانات في خدمات التوظيف 1- البيانات هي نقطة الانطلاق - إنَّ البيانات هي المنبع الذي تتدفق منه المعرفة لازدهار الأنظمة الذكية؛ فبِفضل الذكاء الاصطناعي، تغدو المؤسسات قادرةً على مسح إعلانات الوظائف وسيل السير الذاتية في اللحظة ذاتها، مستخدمةً معالجة اللغة الطبيعية كبوصلةٍ لاستخلاص الكلمات المفتاحية والمهارات والكفاءات فيها. - وهكذا، يرسم هذا السيل المتواصل من البيانات صورة أكثر وضوحاً لما تتطلع إليه أنظار أصحاب العمل، مدركين أنَّ هذه الاحتياجات لا تثبت على حال، بل تتغير وتتبدل مع الزمن. 2- توحيد لغة المهارات - في غمار سعينا الدؤوب، نلمس تباينًا في وصف الوظائف وتحديد المهارات، ونجد أنها غير متسقة. - بيد أن توحيد هذه اللغة، وتنسيق مفرداتها عبر مختلف القطاعات والصناعات، من شأنه أن يختصر الوقت، ويضاعف الكفاءة في عملية المواءمة بين الوظائف ومؤهلات الساعين إليها. - وهنا يبرز دور أدوات معالجة اللغات الطبيعية، في مواءمة التصنيفات المعمول بها في القطاعين العام والخاص، ليصهرها في بوتقة واحدة تضمن قابلية التشغيل على نطاق عالمي. - يساعد هذا المسعى على التواصل الفعال، بين الباحثين عن فرص العمل، وأصحاب الريادة والأعمال، ومقدمي الخدمات على حد سواء، ليتمكنوا من التحاور بلغة مشتركة ومفهومة تجني ثمار التعاون المثمر. 3- بناء الثقة في البيانات - لا شك أن التحقق من المهارات والمؤهلات يُمثّل حجر الزاوية لتفادي أي تأخير غير مرغوب فيه قد يعيق انسيابية عملية التوظيف. - وفي هذا السياق، تتجلى أهمية التقنيات المتقدمة؛ إذ توفر تقنيات التوثيق المعتمدة على سلسلة الكتل (البلوك تشين) القدرة على إنشاء سجلات للشهادات تتسم بالأمان المطلق وتكون منيعة تماماً ضد أي محاولة للتلاعب، في حين تقدم التقييمات الرقمية آليات مرنة وقابلة للتوسع للتحقق الدقيق من المهارات المكتسبة. - ولا يقتصر استخدام هذه الأدوات الحديثة مجتمعة على بناء الثقة في ملفات المرشحين وسيرهم الذاتية فحسب، بل يساهم بشكل مباشر في تقليص أوجه القصور التي قد تعتري مسارات التوظيف التقليدية، ويمتد أثره ليُسهم في دعم وتيسير حراك الكفاءات والمواهب على الصعيد العالمي، فاتحاً بذلك آفاقاً أرحب لتنقل الخبرات وتبادلها. 4- تخصيص مسار التعلم - تتمتع منصات التعلم المدعومة بالذكاء الاصطناعي بالقدرة على صقل برامج استعادة المهارات وتطويرها لتتوافق تماماً مع خصوصية كل متعلم. - إذ لا تقتصر مهمتها على تحليل المهارات الراهنة والغايات المهنية فحسب، بل تتعداها إلى اقتراح مسارات تعليمية دقيقة، مع تعديلها ومواءمتها لحظة بلحظة استجابةً لتطور متطلبات سوق العمل المتغيرة. - غني عن القول، إن هذا المنهج المتجدد يرتقي بمفهوم التعلم المستمر مدى الحياة، ويعزز من مرونة القوى العاملة وقدرتها على التأقلم الفعال مع التحولات المتسارعة. 5- توفيق أذكى بين الوظائف - تساعد نماذج التعلم الآلي في دمج بيانات المُرشحين مع النتائج الفعلية للتوظيف، مما يُعزز من قدرتها على التنبؤ بمستقبل الفرص. - وفي هذا السياق، تتجلى قوة نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) في إضاءة دروب المهارات والتاريخ المهني، لتقدم بذلك توصيات وظيفية أكثر توافقًا وإرشادات مهنية مصممة خصيصًا لتلبية احتياجات المُرشحين وتطلعات أصحاب العمل على حد سواء. نحو بناء أسواق عمل شاملة ومهيأة للمستقبل - تُعدّ أنظمة المُطابقة الذكية للكفاءات والفرص المهنية استراتيجية فارقة، وبوابة حقيقية لإعادة تشكيل مسارات تطوير المهارات واكتسابها، وتوثيقها، ونشرها على نطاق عالمي واسع. - فمتى تلاقت مهارات القوى العاملة وتناغمت مع احتياجات السوق المتغيرة، غدونا قادرين على رأب الفجوة القائمة، وتنمية الإنتاجية إلى أقصى مداها، ومن ثمّ تشييد صروح اقتصادية أرحب وأكثر شمولاً وقدرة على الصمود في وجه التقلبات. - جدير بالذكر أن هذه الرؤية الطموحة، بمقاصدها النبيلة، تمثل الركيزة الأساسية في مبادرتين رائدتين أطلقهما المنتدى الاقتصادي العالمي، هما "ثورة إعادة اكتساب المهارات" و"مستقبل الوظائف". - وقد التقت تحت مظلة هاتين المبادرتين قوى فاعلة من عالم الأعمال والحكومات والمجتمع المدني على حدٍ سواء، لتتعاون يداً بيد في مواجهة التحدي المتصاعد المتمثل في ضرورة تحويل منظومة التعليم والمهارات والتعلم برمتها، وتوسيع آفاق الوصول إلى فرص عمل كريمة وعالية الجودة تليق بالجميع. - حقاً، إن مستقبل عالم الأعمال برمته معقود على القدرة على إطلاق العنان للطاقات البشرية الكامنة وإفساح المجال لإمكاناتها اللامحدودة. - ولا شك أن التكنولوجيا ستضطلع بدور المحرك الرئيسي والفاعل في تحقيق هذا التحول المنشود نحو غدٍ أفضل وأكثر إنصافاً. المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي