تشير دراسات أمريكية إلى أن فك الارتباط الاقتصادي مع الصين، قد يؤدي إلى التدهور، والفوضى، أو ما هو أسوأ، حيث يشكل البلدان معاً ما يقرب من 45% من الناتج العالمي، وأكثر من 20% من حجم التجارة الدولية. والأسوأ من ذلك، تعالي صرخات في واشنطن تنادي بعدم الاكتفاء بفك الارتباط الاقتصادي مع الصين، بل تبنِّي سياسة احتواء تستهدف انهيار النظام في بكين، رغم أن الصين هي الاقتصاد الثاني في العالم وأكبر بلد تجاري. ويتشكل اقتصادها من القطاعين الخاص والعام. وتأتي 92% من صادرات الصين من قطاع خاص مزدهر، بما في ذلك نحو 42% من شركات بها مستثمرون أجانب، وعلى الرغم من متاعبه الأخيرة ما زال الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل عند نحو 5%. وغالباً بسبب حجمه، سيظل ثاني أهم اقتصاد في العالم لعقود قادمة.وفي نفس الوقت فإن الصين تعمل بهدوء، وتستوعب دروس الماضي، وتؤمن بمقولة من يريد أن يكون كبيراً يضع لنفسه أهدافاً كبرى. وفي هذا السياق وضعت الصين خططاً تضمنت مجموعة من الأهداف الداخلية والخارجية، والتي سوف تترك تأثيرها الكبير في المعادلة الاقتصادية والاستراتيجية في العالم. ومن بينها تحقيق أكبر قدر من الانفصال عن الولايات المتحدة، فالاقتصاد الصيني مازال يعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، فالحرب التجارية التي تشنها إدارة ترامب، وتبني هدف الانفصال الاقتصادي عن الصين، جعلها هي الأخرى تتبنى نفس الهدف في مواجهة الولايات المتحدة.وتتحدث دراسات اقتصادية عن أن فك الارتباط التام بين اقتصاد الصين والاقتصادات الغربية، يمكن أن يكون باهظ التكلفة. فمن شأنه أن يخفض الناتج المحلي الإجمالي للعالم بنسبة 7% وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي. وهذه خسارة تساوي 7.4 تريليون دولار أو ما يعادل تقريباً حجم الاقتصادين الفرنسي والألماني معاً. كما يتوقع صندوق النقد الدولي أيضاً أن تكون الاقتصادات النامية أكثر تضرراً إذا قطعت واشنطن وبكين روابطهما الاقتصادية.لكن تلك الدراسات تنبهنا ألى أن بعض الاقتصادات، ستكسب من فك الارتباط أو من شكله الأخف نوعاً ما، والذي يُطلق عليه «التخلص من المخاطر». بل في الحقيقة، بعض البلدان الصاعدة تُموضع نفسها بسرعة للاستفادة مع شروع الصين والغرب في «إعادة ربط» سلاسل التوريد. وهي تفعل ذلك مثلاً بالعمل كمراكز صناعية وتجارية بين كلا الطرفين أو بدفع طرف للتنافس مع الطرف الآخر، على نحو يتيح لها الحصول على دعمه واستثماراته.وتسلط دراسات الضوء على الكيفية التي تستعد بها بعض البلدان، للاستفادة من التوترات الأمريكية الصينية والتشظي الاقتصادي الناتج عنها، فعلى سبيل المثال تستفيد بلدان مثل ماليزيا كمركز صناعي جديد للسلع ذات الأهمية الفائقة. ربما لا تظهر جزيرة بينانج الماليزية كثيراً في عناوين الأخبار. لكن سكانها البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة شهدوا مؤخراً ازدهاراً اقتصادياً، فمع تنويع الشركات متعددة الجنسيات لسلاسل توريدها لإنتاج السلع بالغة الأهمية بعيداً عن الصين، طرحت الجزيرة نفسها كمركز صناعي محايد لأشباه الموصلات التقليدية. وفي حين يعود إنتاج ماليزيا للرقائق الدقيقة إلى 50 عاماً، إلا أن هناك اندفاعاً غير مسبوق لإقامة خطوط تجميع واختبار أشباه الموصلات في بينانج، فقد اجتذبت الجزيرة استثماراً أجنبياً مباشراً بقيمة 13.5 بليون دولار في العام 2022، أو ما يزيد على إجمالي مثل هذه الاستثمارات في الفترة من 2013 إلى 2020.أصبحت الجزيرة بدورها مورداً رئيسياً لأشباه الموصلات، حيث زودت الولايات المتحدة بنسبة 20% من وارداتها من الرقائق في عام 2023. ويبدو أن تفوقها في مجال صناعة الرقائق الدقيقة، سيشهد المزيد من النمو، فقد أعلنت شركة «إنتل» التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها للتو عن خطة بقيمة 7 بلايين دولار للتوسع في الإنتاج بالجزيرة.والشركات الغربية ليست الوحيدة المهتمة ببينانج. فشركة «إكس فيوجن»، وهي فرع سابق لشركة هواوي، وشركة «ستار فايف» ومقرها في شنغهاي، تخططان لإنتاج الرقائق في الجزيرة. ماليزيا، على عكس الصين، ليست خاضعة للقيود الأمريكية على تصدير تقنية أو معدات أشباه الموصلات المتقدمة.تخبرنا تلك الدراسات أن سياسة التخلص من المخاطر تحول بعضَ البلدان إلى وسطاء. وهذا التوجه يقترن بآثار جانبية غير متوقعة، فسلاسل الإمداد تطول وتتمدد، وفقاً لبنك التسويات الدولية. تواصل شركات عديدة شراء الإمدادات المصنوعة في الصين، لكنها الآن تشتريها من بلدان وسيطة تلعب دور الوكيل بين كلا الجانبين. إذا ألقينا نظرة على إحصائيات تجارة فيتنام، سنرى كيف يحدث ذلك في الواقع الفعلي، فقد تضاعفت قيمة صادرات السلع الصينية إلى فيتنام تقريباً، منذ عام 2017، إلى أكثر من 138 بليون دولار في العام 2023. (زاد إجمالي صادرات سلع الصين بنحو النصف فقط خلال الفترة نفسها) ومن الصعب الاعتقاد بأن السوق الاستهلاكية لفيتنام تمتص مثل هذا التدفق الهائل للمنتجات الصينية. بل بدلاً من ذلك، ينتقل العديد منها ببساطة عبرها إلى الولايات المتحدة.والظاهرة السعيدة للبلدان الصاعدة، أن هناك واقعاً مالياً جديداً، فبعد عقود من الاعتماد على المؤسسات التي يقودها الغرب، تتجه البلدان الصاعدة باطراد نحو مانحين جدد. وعلى سبيل المثال، عام 2023، تعرضت ولاية ريو غراندي دو سول في جنوب البرازيل إلى أمطار غزيرة وفيضانات مهلكة أدت إلى نزوح نحو 700 ألف شخص. وإزاء تلك الكارثة أرسلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مبلغاً شحيحاً لا يتعدى مليون دولار لكل منهما. في نفس الوقت، أعلن بنك التنمية الجديد الذي تدعمه بلدان البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا وبلدان عديدة أخرى) أنه سيحول حزمة مساعدات بقيمة 1.1بليون دولار على الفور.[email protected]