د. رامي كمال النسور* تُعرف ألمانيا بأنها القاطرة الاقتصادية لأوروبا، وأحد أبرز المحركات الرئيسية للنمو العالمي، بفضل صناعاتها الثقيلة، وصادراتها القوية، واستقرارها المالي. لكن السنوات الأخيرة وضعت هذا الاقتصاد في مواجهة سلسلة من التحديات غير المسبوقة، بدءاً من جائحة كورونا، مروراً بالحرب الروسية-الأوكرانية، وصولاً إلى أزمات الطاقة والتضخم، ما جعل كثيراً من الخبراء يتحدثون عن دخول ألمانيا في مرحلة ركود اقتصادي أو وقوفها على أعتابه.وبعد عامين من التقلّب الاقتصادي، يبدو أن ألمانيا ما زالت تتعثّر في 2025. فقد سجّل الاقتصاد انكماشاً بنسبة 0.3% في الربع الثاني من العام، وهو أسوأ من التقديرات الأولية، الأمر الذي وضع البلاد مجدداً في منطقة «الركود» الفعلي على الرغم من النمو الطفيف البالغ 0.2% في الربع الأول، إلا أن هذا الارتفاع لم يكن كافياً لاحتواء التأثير السلبي على المدى القريب.وعند الحديث عن مؤشرات التباطؤ الاقتصادي يأتي أولاً تراجع النمو، حيث شهد الناتج المحلي الإجمالي الألماني في الفصول الأخيرة معدلات نمو ضعيفة للغاية، بل وسجّل انكماشاً في بعض الفترات. هذا التراجع يعود بالدرجة الأولى إلى انخفاض الطلب العالمي على السلع الألمانية، خاصة في القطاعات الحيوية، مثل صناعة السيارات والآلات والهندسة الميكانيكية، وهي القطاعات التي لطالما مثّلت العمود الفقري لاقتصاد البلاد.بعد ذلك تأتي أزمة الطاقة وارتفاع الكلف، إذ إن اعتماد ألمانيا الكبير على الغاز الروسي جعلها من أكثر الاقتصادات الأوروبية تأثراً بالحرب في أوكرانيا والعقوبات المتبادلة مع موسكو. فقد أدى توقف إمدادات الغاز الروسي الرخيص إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الطاقة، ما انعكس مباشرة على كلف الإنتاج الصناعي، وأضعف القدرة التنافسية للشركات الألمانية في الأسواق العالمية.أما التضخم المرتفع وتآكل القدرة الشرائية فقد أصبح سمة أساسية للمشهد الاقتصادي الألماني. ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والخدمات اليومية أدى إلى تراجع القوة الشرائية للأسر، وبالتالي ضعف الاستهلاك المحلي الذي يُعدُّ محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي. ومع تقلص الإنفاق الاستهلاكي، ازدادت معاناة الشركات الصغيرة والمتوسطة، ما ضاعف الضغوط على الدورة الاقتصادية ككل.وعلى الرغم من أن ألمانيا لا تزال تتمتع بمعدلات بطالة منخفضة نسبياً، فإن القلق يتزايد بشأن المستقبل. الشركات باتت أكثر تحفظاً في قرارات التوظيف، وأصبحت تفضل التريث في التوسع أو فتح فرص جديدة، في ظل ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي. وإذا استمر هذا الوضع، فقد يتأثر سوق العمل سلباً، ما سينعكس على الاستقرار الاجتماعي.وهنا يتبادر لدينا هذا السؤال وهو: هل الركود حتمي؟في الحقيقة وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعلم جميعاً أن العديد من المؤسسات المالية الدولية والاقتصاديين يرون أن ألمانيا إما دخلت بالفعل في ركود فني، أي انكماش لربعين متتاليين، أو أنها على وشك ذلك. غير أن ألمانيا لا تزال تمتلك عناصر قوة قد تساعدها على تجاوز هذه المرحلة، وهي قاعدة صناعية متينة ذات سمعة عالمية، وموقع جغرافي استراتيجي في قلب أوروبا، ورأسمال بشري مؤهل ومبتكر، وأخيراً سياسات حكومية متجهة نحو التحول الطاقي والرقمنة.ومن ثم، فإذا كان التحدي الأكبر اليوم هو مواجهة تبعات التضخم وأزمة الطاقة، فإن المستقبل يحمل فرصاً قد تمكّن ألمانيا من إعادة صياغة نموذجها الاقتصادي. فالتحول نحو الطاقة المتجددة يقلل من التبعية للغاز الروسي، والاستثمار في الذكاء الاصطناعي والرقمنة يعزز القدرة التنافسية عالمياً. كما أن تعزيز الشراكات مع اقتصادات ناشئة قد يعوّض بعض التراجع في الطلب الأوروبي التقليدي.الشاهد من هذا كله أن الاقتصاد الألماني يقف على مفترق طرق حساس. فمن جهة، تفرض التحديات الحالية ضغوطاً كبيرة تجعله قريباً من الركود، ومن جهة أخرى، يمتلك مقومات قوية تؤهله لاستعادة عافيته إذا ما تم استغلالها بحكمة. إن نجاح ألمانيا في تجاوز هذه المرحلة لن يؤثر فقط في مواطنيها، بل سيمتد أثره إلى أوروبا بأكملها، نظراً لكونها القلب الصناعي والمالي للقارة التي لديها الآن من المصاعب ما لم يكن لديها من قبل.*المستشار في الأسواق المالية والحوكمة والاستدامة