مايك دولان *
لا يزال الجدل محتدماً حول صعود العملات الرقمية المستقرة المرتبطة بالدولار، لكن المفارقة أن النقاش لم يعد ينحصر في التخلي عن «الدولرة» بقدر ما بات يدور حول عودة هذه الهيمنة بشكل جديد. ومع ذلك، فإن الطبيعة الخاصّة لهذه العملات تضيف قدراً كبيراً من القلق لصناع القرار.
وتستخدم العملات المستقرة، وهي رموز رقمية مقومة بالدولار تتيح تسوية فورية، من قِبَل مُتداولي التشفير، وتحوّلت إلى أداة رئيسية لنقل الأموال بين مختلف الأصول الرقمية. وقد اكتسبت مؤخراً زخماً إضافياً بعد تشريع الكونغرس الأمريكي «قانون جينيوس» في يوليو/تموز الماضي، والذي يشترط أن تكون هذه العملات مدعومة بالكامل بأصول سائلة مثل النقد أو سندات الخزانة.
وساهم هذا الإطار التشريعي في تعزيز ثقة الأسواق، لترتفع القيمة السوقية للعملات المستقرة بأكثر من الضعف خلال 18 شهراً فقط، مقتربة من280 مليار دولار، مع توقعات بأن تبلغ تريليوني دولار خلال ثلاث سنوات. وهو ما تعده وزارة الخزانة الأمريكية طفرة الطلب المُحتملة على ديونها المُتنامية.
ورغم هذا النمو اللافت، ما زالت العملات المستقرة تشكّل نحو 1% فقط من حجم المعاملات العالمية، أي أقل بكثير من سوق السندات الحكومية الذي يتجاوز100 تريليون دولار. إلا أن توسع استخدامها في المعاملات العابرة للحدود يجعلها محط اهتمام بالغ من البنوك المركزية والجهات الرقابية.
المثير أن 99% من هذه العملات مرتبط بالدولار، رغم أن معظم تداولاتها تتم خارج الولايات المتحدة. وهذا يعني أن هيمنة العملة الخضراء مرشحة للتمدد رقمياً، في وقت تتطلع فيه قوى أخرى، كالصين، إلى الحد من نفوذها.
بكين، التي ركزت في السابق على تطوير «اليوان الرقمي السيادي»، بدأت الآن تراقب بجدية صعود عملات مستقرة مدعومة باليوان. ويبقى أن نرى ما إذا فات الأوان بالنسبة لها ولدول أخرى لمنافسة هذا المد المتسارع.
وأقرّت الخبيرة الاقتصادية هيلين ري، في مقال لها في مجلة التمويل والتنمية التابعة لصندوق النقد الدولي، بمزايا الكفاءة التي يُمكن أن تُوفرها العملات المستقرة في المعاملات عبر الحدود، لا سيما في الدول غير المستقرة ذات الحوكمة الضعيفة، لكنها حذرت في المقابل من المخاطر المحتملة التي تهدد النظام المالي الدولي، وجادلت بأن على الجهات التنظيمية أن تُدرك البيانات المُبهمة نسبياً لعالم العملات الرقمية عاجلاً وليس آجلاً.
وكتبت: «على الجانب السلبي، هناك الدولرة وآثارها الجانبية، ومخاطر الاستقرار المالي، واحتمال تفريغ النظام المصرفي، وتفاقم المنافسة على العملات، فضلاً عن غسيل الأموال، وتآكل القاعدة المالية، وخصخصة امتياز سك العملة، وانتقاله من الحكومات إلى شركات خاصة».
والأخطر من ذلك، أن استمرار هيمنة الدولار على هذه العملات قد يؤدي إلى تقليص الطلب العالمي على السندات الحكومية غير الأمريكية لصالح سندات الخزانة، مما يعمّق ما يسميه الاقتصاديون ب«الامتياز الباهظ» الذي يحظى به الدولار منذ عقود.
ولفتت راي إلى أن التطور السريع للعملات المستقرة قد يفضي إلى «بنية مالية أكثر هشاشة»، فاعتماد العالم على شبكات خاصة متنافسة في إصدار النقود الرقمية قد يضعف قدرة الحكومات على إدارة النظام النقدي العالمي. ورغم إمكانية فرض بعض الضوابط من خلال شركات التكنولوجيا، فإن المخاطر على الاستقرار تبقى قائمة.
وربما يبدو الحديث عن هذه المخاطر مبالغاً فيه بالنظر إلى الحجم الصغير نسبياً لهذه السوق، لكن وتيرة نموها السريعة تجعل من الضروري إعداد خطط استباقية، خاصة في ظل أزمات الدين الحكومي، ومخاوف التضخم طويل الأمد، والارتفاع القياسي لأسعار الذهب.
بدورها، تراقب أوروبا هذه التطورات بقلق. فالبنك المركزي هناك يعمل على تشريعات لإطلاق «اليورو الرقمي»، لكنه في الوقت نفسه يشدد على ضرورة فرض ضمانات صارمة وآليات مكافئة قوية على أي عملات مستقرة أجنبية يتم تداولها داخل القارة، لتجنب خطر انهيار احتياطياتها.
أما في الولايات المتحدة، فقد أعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي أنه سينظم مؤتمراً الشهر المقبل حول ابتكار أنظمة الدفع، مع التركيز على العملات المستقرة وتقنيات الترميز.
قد يكون من المفارقات الكبرى أن العملات المشفرة، التي وُلدت من رحم الشكوك في استقرار الدولار، تتحول اليوم إلى الأداة التي تعزز هيمنته على النظام المالي العالمي. ولو صحّت التوقعات، قد يجد «الامتياز الباهظ» للدولار لنفسه متكأً رقمياً جديداً، يعيد تشكيل موازين القوة النقدية في القرن الحادي والعشرين.
* محرر الأسواق المالية في «رويترز»
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.