دايسوكي واكاباياشي* اندلعت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة هذا العام بشكل صاخب، مع تبادل فرض رسوم جمركية تصاعدت بسرعة إلى مستويات غير مسبوقة. ومع أن الطرفين أظهرا حرصاً على عدم الوصول إلى قطيعة كاملة، إلا أن جولات التفاوض المتكررة لم تُثمر تقدماً حقيقياً في معالجة الخلافات الجوهرية بين أكبر اقتصادين في العالم.وفي الوقت الذي سعت فيه دول عديدة إلى إرضاء إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتعجيل بعقد اتفاقات لتخفيض الرسوم، سلكت بكين طريقها الخاص، وبدت عازمة على عدم التراجع أو إظهار الضعف، وتحملت كلفة واضحة ومتوقعة، تمثلت في تراجع حاد لصادراتها إلى السوق الأمريكية.وبالفعل، انخفضت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنحو 15%، منذ بداية العام، لكن ذلك لم يُعطل ماكينة التصدير الصينية. على العكس، حققت بكين فائضاً تجارياً عالمياً يقترب من تريليون دولار العام الماضي، وهو مستوى تاريخي لم يُسجل إلا في فترات استثنائية، خلال الحربين العالميتين.وخلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي، اتسع فائض الصين التجاري ليصل إلى قرابة 786 مليار دولار، مقارنة بنحو 613 مليار دولار، في الفترة نفسها من العام الماضي. وجاء هذا النمو مدفوعاً بازدهار تجارتها مع أسواق جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا. وغزت ماركات السيارات الكهربائية الصينية أسواق أوروبا وجنوب شرق آسيا، في حين غمرت الألواح الشمسية الصينية منخفضة الأسعار الأسواق الإفريقية، كما انتهى بعض فائض صادرات بكين في الولايات المتحدة، عبر أطراف ثالثة، وذلك رغم تهديد إدارة ترامب بفرض إجراءات صارمة لوقف هذه الالتفافات.ولم يكن التحرك الصيني ارتجالياً، فمنذ أكثر من عقد، ضخت البلاد استثمارات ضخمة في البنى التحتية، عبر العالم النامي، ليس فقط لتشييد طرق وموانئ وسكك حديد، بل لبناء شبكة نفوذ اقتصادي تجعلها قادرة على توجيه تجارتها، بعيداً عن الولايات المتحدة، وأتاحت هذه السياسة لها اليوم إعادة توجيه صادراتها نحو أسواق بديلة، ما أبقى اقتصادها في حالة نمو.في المقابل، ورغم قوة أرقام التجارة، فإنها تُخفي نقاط ضعف متنامية داخل الاقتصاد الصيني، فأزمة العقارات المستمرة تُثقل كاهل النمو، فيما يواجه الشباب نسب بطالة مرتفعة، ويعاني المستهلكون ضعفاً في الإنفاق. يضاف إلى ذلك دوامة انكماشية بفعل فائض الإنتاج وحروب الأسعار.مؤخراً، أعلنت الصين أن إنفاق التجزئة وإنتاج المصانع في أغسطس/ آب، جاء أقل من توقعات الاقتصاديين، في إشارةٍ إلى تباطؤٍ حاد في النشاط الاقتصادي، حيث لم تحقق محاولات الحكومة لتحفيز الاقتصاد، من خفض الفائدة إلى تخفيف قيود شراء المنازل ودعم السلع الاستهلاكية، نتائج مرجوة كافية لضمان بلوغ هدف النمو السنوي البالغ 5%.في أي مفاوضات، يحتاج كل طرف إلى إظهار أوراق القوة لديه. وبالنسبة للصين، تبقى السوق الأمريكية حيوية، لأنها الأضخم والأكثر ثراءً في العالم، لكن بكين أوضحت في الأشهر الماضية أن واشنطن بدورها معرّضة لخسائر كبيرة إن استمرت في التصعيد. ففي إبريل/ نيسان، ردّت الصين على الرسوم الأمريكية بوقف تصدير المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة، ومعلومٌ أهمية هذه المواد لصناعة السيارات والطائرات المسيّرة والروبوتات والأنظمة العسكرية. ومع أن بكين استأنفت الشحنات جزئياً في يونيو/ حزيران، ضمن مسار التفاوض، لا تزال الشركات الأمريكية والأوروبية تعاني صعوبة في الحصول على إمدادات كافية. وعليه، فإن الرسالة واضحة: الصين تملك نفوذاً كبيراً في سلاسل التوريد العالمية، وهي مستعدة لاستخدامه كورقة ضغط. ولجأت الصين إلى مقاطعة شراء فول الصويا الأمريكي، باعتبارها أكبر مشترٍ عالمي، حيث تستورد نحو 60% من إنتاج العالم، ما شكّل ضربة موجعة للمزارعين الأمريكيين في ولايات الغرب الأوسط، الذين يُعدّون قاعدة انتخابية مهمة للرئيس ترامب.الحرب التجارية بين واشنطن وبكين ليست مجرد مواجهة اقتصادية، بقدر ما هي اختبار لإرادة سياسية وقدرة كل طرف على الصمود. ترامب يراهن على أن الضغط المتواصل سيجبر الصين على التراجع، فيما تراهن الأخيرة على شبكة أسواقها البديلة وأدوات نفوذها الاستراتيجي لامتصاص الصدمات.ويبقى السؤال، هل ستؤدي هذه الحرب بين العملاقين إلى إعادة صياغة قواعد التجارة العالمية، أم ستنتهي بتسوية مؤقتة تفتح الباب لجولات جديدة من الصراع؟ ما يبدو مؤكداً حتى الآن أن بكين لن «ترمش أولاً»، وأن النزاع التجاري تحول من اختبار للرسوم الجمركية إلى هيمنة أوسع حول النفوذ والسيادة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.* مراسل الشؤون الاقتصادية الآسيوية لصحيفة التايمز في سيؤول(نيويورك تايمز)