اقتصاد / صحيفة الخليج

كيف نبني مؤسسات تتعلم ولا تُعاقب؟

د. راسل قاسم

عندما تشتعل أزمة داخل مؤسسة، تبدأ الأصابع في الإشارة، والأنظار تبحث عن «المذنب». في لحظة واحدة، يتحول الخطأ من فرصة للتعلّم إلى جلسة اتهام. يُضحّى بأحدهم ليهدأ الغضب وتستمر العجلة كما كانت. غير أن هذا الطقس المتكرر، الذي يبدو علاجاً سريعاً، هو في الواقع مرض إداري عميق يدمّر روح التعلم ويزرع الخوف في النفوس.

مفهوم كبش الفداء ليس وليد الإدارة الحديثة، بل يمتد إلى الطقوس الدينية القديمة، حين كان يُحمَّل الحيوان بخطايا الجماعة ثم يُنفى أو يُذبح للتكفير عنها. مع الوقت، تسلّل هذا النمط إلى المجتمعات والسياسات والمنظمات. فهو نموذج بشري عابر للتخصصات، من التاريخ إلى علم النفس والإدارة، يُترجم حاجة الإنسان إلى تحويل اللوم من النظام إلى الشخص.

في السياق المؤسسي، تتحول هذه الحاجة إلى آلية دفاع جماعي. بدل أن تواجه القيادة الأسباب الجذرية للخطأ، تبحث عن ضحية رمزية. تُقدَّم القرارات الخاطئة على أنها أخطاء أفراد، وتُغفل العوامل البنيوية التي أنتجتها: ضعف الإجراءات، غموض الصلاحيات، أو ثقافة صمت تمنع الإبلاغ عن المشكلات مبكراً. والنتيجة بيئة يسودها الخوف، يتجنب فيها الموظفون التجربة، وتختفي الشفافية ويُقتل الابتكار في مهده.

المنظمات الناضجة تدرك أن الخطأ ليس إخفاقاً فردياً، بل مرآة تكشف خللاً في النظام أو نقصاً في الموارد أو المعرفة. القائد الواعي لا يسأل: «من نلوم؟» بل يسأل: «ماذا نتعلم؟». فكل خطأ يُعالج بإنصاف وموضوعية، يضيف للمؤسسة خبرة ويزيد مناعتها أمام التحديات المستقبلية.

العدالة التنظيمية كبديل عن اللوم المؤسسي

هنا يأتي دور Just Culture أو الثقافة العادلة، التي نشأت في صناعات عالية الحساسية كقطاع الطيران والرعاية الصحية. جوهرها هو التوازن بين المساءلة الفردية والمساءلة التنظيمية. فهي ليست ثقافة «اللامساءلة»، كما يظن البعض، لكنها إطار يُفرّق بين ثلاثة أنواع من السلوك:

الخطأ البشري غير المقصود الناتج عن الإرهاق أو سوء الفهم.

السلوك المخاطر أو المتهور الذي يحتاج إلى تصحيح وتدريب.

السلوك المتعمد أو الإهمال الجسيم الذي يستوجب المحاسبة.

تدعو هذه الفلسفة التي طورها باحثون مثل ديفيد ماركس وسيندي ديكير، إلى تحويل الخطأ إلى مصدر معرفة لا إلى ساحة عقاب. فبدلاً من كتم البلاغات أو إخفاء الحوادث خوفاً من التوبيخ، يُشجَّع الموظفون على الإبلاغ عنها لتطوير الأنظمة. تشير العديد من الدراسات إلى أن المؤسسات التي تتبنى ثقافة عادلة تشهد ارتفاعاً في مستويات الثقة والشفافية وتحسناً ملحوظاً في الأداء والسلامة التشغيلية.

من ثقافة الخوف إلى بيئة التعلم

الفرق بين المؤسستين واضح: في الأولى، تُزرع الخشية من الوقوع في الخطأ، فيتوقف الجميع عن التجريب. في الثانية، يُنظر إلى الخطأ كوقود للتطوير. حين يشعر الأفراد بالأمان النفسي، يصبحون أكثر جرأة في اقتراح الحلول والإفصاح عن المخاطر. وبدلاً من أن يُستنزف الوقت في الدفاع واللوم، يُستثمر في التحسين والتعلّم.

القادة الذين يفهمون هذه المعادلة لا يحمون سمعة مؤسساتهم عبر التضحية بأفرادها، بل عبر بناء أنظمة أكثر عدلاً وشفافية. فالمساءلة الحقيقية لا تعني العقوبة، بل فهم الأسباب وبناء .

نحو نضج مؤسسي مستدام

التحول من ثقافة كبش الفداء إلى ثقافة العدالة ليس تجميلاً في أسلوب القيادة، بل انتقالاً جوهرياً في فلسفة الإدارة. هو إعلان بأن المؤسسة لم تعد تخاف من الحقيقة، بل تبحث عنها. فالتعلّم المؤسسي لا يولد من الكمال، بل من الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء وتحويلها إلى طاقة إصلاح.

المؤسسات التي تتوقف عن معاقبة الخطأ وتبدأ في فهمه، لا تنجو فقط من أزماتها، بل تبني بيئة تخطئ فيها بذكاء وتتعلم بسرعة. فبين مؤسسة تُخفي إخفاقها خلف الأفراد، وأخرى تُواجهه بعقل منفتح وروح عادلة، يُرسم الخط الفاصل بين إدارة تُكرر أخطاءها، وإدارة تصنع مستقبلها.

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا