إعداد: أحمد البشير
برلين، العاصمة الألمانية التي لا تشبه غيرها، استطاعت أن تجمع بين التناقضات في لوحة فنية نابضة بالحياة، فهي مزيج مذهل من الأناقة والفوضى، والتاريخ العميق والحداثة الجريئة، والإبداع الجامح والطبيعة الهادئة، ومن يرغب في الغوص في ثقافة متفردة ومعمار جريء ومشهد فني متنوع وحياة ليلية صاخبة وحدائق خلابة، لن يجد وجهة أفضل من برلين.
تتنوع ملامح المدينة لتناسب جميع الأذواق، سواء كنت من عشّاق الفخامة أو من محبي البساطة، ففيها يمكنك أن تتجوّل بين المتاحف العالمية، أو تتأمل آثار الحرب الباردة، أو تسترخي في متنزهات تمتد على مساحات خضراء مترامية. إنها المدينة التي لا تنام، وتمنح زائريها تجربة لا تُنسى.
جزيرة المتاحف... كنز الإنسانية في قلب برلين
تُعد جزيرة المتاحف (Museumsinsel) من أبرز رموز المدينة وأكثرها إثارة للإعجاب، وهي مدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، منذ عام 1999، وتضم الجزيرة خمسة متاحف عالمية تشكل رحلة عبر عصور التاريخ الإنساني، من العصر الحجري إلى القرن التاسع عشر.
وفي المتحف الجديد (Neues Museum)، ستقف وجهاً لوجه أمام تمثال الملكة المصرية «نفرتيتي»، أحد أعظم رموز الجمال في التاريخ الإنساني.
أما في المعرض الوطني القديم (Alte Nationalgalerie)، فتنتظرك لوحات الرسام الألماني كاسبار دافيد فريدريخ، التي تجسد الطبيعة برؤى شاعرية حزينة. أما المتحف القديم (Altes Museum)، فيحتفي بعظمة الحضارتين اليونانية والرومانية، من خلال تماثيل آلهتها المهيبة.
ولا تفوتك زيارة متحف بودة (Bode-Museum)، الذي يضم واحدة من أهم مجموعات النحت الأوروبي من العصور الوسطى حتى القرن الثامن عشر.
نصيحة للمسافرين: لا تنسَ أن متحف «بيرغامون» يخضع حالياً لمشروع ترميم ضخم، ومن المقرر أن يُعاد افتتاح قاعاته الرئيسية في عام 2027. لكن يمكنك زيارة المعرض المؤقت بيرغامون بانوراما (Das Panorama) المجاور، الذي يعرض لوحة بانورامية مذهلة تصور مدينة «بيرغامون» القديمة بتفاصيل فوتوغرافية مدهشة.
التنفس في أحضان الطبيعة داخل المدينة
برلين ليست فقط عاصمة للفن والثقافة، بل هي أيضاً واحدة من أكثر مدن أوروبا خضرة. في كل زاوية منها تجد حديقة أو مساحة طبيعية تعيد التوازن إلى روحك.
وفي حديقة «بارك أم غلايسدرايك»، التي كانت يوماً ما ملتقى للسكك الحديدية، ستجد العائلات تتنزه على المساحات الخضراء، والموسيقيين يعزفون في الهواء الطلق، والمتزلجين يملأون المكان حيوية. أما أكثر الأمثلة إبداعاً في استغلال المساحات، فهو «ميدان تمبلهوفر»، الذي كان في الماضي مطاراً شهيراً لعب دوراً محورياً في عملية الإمداد الجوي، خلال أزمة برلين عامي 1948 و1949. واليوم تحول إلى متنزه ضخم، حيث يمكنك ركوب الدراجة على المدرجات السابقة، أو مشاهدة المتزلجين على الرياح، أو الاستمتاع بغروب الشمس في المقاهي المجاورة.
متاجر «شباتي».. تجربة اجتماعية
من المفردات التي يجب أن تتعلمها قبل زيارة برلين كلمة «شباتي» (Späti)، وهي النسخة المحلية من متاجر البقالة الصغيرة، التي تفتح حتى ساعات متأخرة. لكن هذه المتاجر تتجاوز كونها أماكن لشراء الحاجات اليومية، فهي بمثابة نقطة التقاء للسكان والزوار، حيث يجلس الناس أمامها على طاولات صغيرة لتبادل الأحاديث.
وبعض «الشباتي» يتحول في الليالي الصيفية إلى حفلات مرتجلة تعكس الروح الحرة للمدينة. إنها تجربة برلينية أصيلة يجب ألا تفوتها.
فن الشارع.. المتحف المفتوح
برلين هي جنة لعشاق فن الشارع، إذ تتزين جدرانها برسومات ملونة تعبر عن الحرية والتمرد والإبداع. في أحياء مثل «كرويتسبيرغ» و«فريدريشسهاين»، يمكنك مشاهدة أعمال لفنانين عالميين مثل هيراكت وبلو وشيبرد فيري.
ومن أبرز المعالم الفنية في المدينة «غاليري إيست سايد»، وهو أطول بقايا جدار برلين بطول 1.3 كيلومتر، تحوّل بعد عام 1990 إلى لوحة فنية ضخمة رسمها فنانون من مختلف دول العالم، تخليداً لروح الوحدة والحرية.
وإذا هطلت الأمطار، يمكنك استكشاف متحف «آربن نيشن»، وهو أول متحف ألماني مخصص لفن الشارع.
نصيحة: جرّب جولات «برلين البديلة»، لتتعرف إلى تاريخ هذا الفن وثقافته من منظور الفنانين أنفسهم.
متعة الماء.. من السباحة إلى التجديف
رغم أنها ليست مدينة ساحلية، فإن برلين غنية بالمياه. يمكنك السباحة في «بحيرة شلاختنزي» المحاطة بالغابات، أو قضاء يوم على شاطئ فانزي الذي يمتد لمسافة كيلومتر.
أما في وسط المدينة، فستجد «بادشيف»، مسبحاً عائماً في نهر «شبريه» مع شاطئ رملي وموسيقى صيفية منعشة، وإن لم تكن من هواة السباحة، يمكنك القيام برحلة بحرية في القوارب التي تمر عبر جزيرة المتاحف والحي الحكومي، أو استئجار قارب تجديف لتستمتع بغروب الشمس خلف جسر «أوبر باوم».
ذاكرة الجدار.. من الانقسام إلى الوحدة
لا يمكن فهم برلين دون المرور على تاريخها المقسوم بين الشرق والغرب. في نصب جدار برلين التذكاري، ستتعرف إلى تفاصيل الحياة خلال 28 عاماً من الانقسام. توجد هناك صور ووثائق وأجزاء من الجدار وأبراج المراقبة الأصلية.
أما متحف ألمانيا الشرقية (DDR Museum)، فيقدم تجربة تفاعلية مدهشة تُظهر الحياة اليومية في ظل النظام الاشتراكي. ولمن يرغب بمعرفة الجانب المظلم من التاريخ، فإن متحف «شتازي» وسجن «شتازي» يقدمان رؤية مؤلمة لكن ضرورية عن جهاز المخابرات في ألمانيا الشرقية.
حديقة تيرغارتن.. القلب الأخضر للعاصمة
في قلب برلين تقع حديقة «تيرغارتن»، التي كانت في الماضي أرضاً لصيد ملوك بروسيا، وتحولت اليوم إلى مساحة خضراء ضخمة تعج بالحياة. يمكنك التنزه أو الجري بين الأشجار، أو استئجار قارب صغير في البحيرة الداخلية، أو الاستمتاع بمشروبك المفضل في مقهى «آم نويِن زي» المطل على الماء.
ولا تفوّت زيارة برج النصر (Siegessäule)، حيث يمنحك الصعود إلى قمته إطلالة خلابة على المدينة وحديقتها، وقد أصبح هذا المعلم رمزاً غير رسمي لمجتمع الميم في برلين.
كاري فورتست... نكهة برلين الأصيلة
لن تكتمل زيارتك دون تجربة طبق «كاري فورتست» (Currywurst) الشهير، وهو سجق مقلي مقطع يُقدّم مع صلصة الطماطم الممزوجة بمسحوق الكاري. ابتكرت هذه الوجبة عام 1949، وأصبحت رمزاً لثقافة الشارع البرلينية. ومن أشهر الأماكن لتذوقها: مطعم «كونوبكه» و«كاري 36»، اللذان يُعدان بمثابة مؤسستين تاريخيتين في عالم المأكولات السريعة.
مشهد فني عالمي متنوع
تتألق برلين بمشهد فني لا يضاهى، من روائع رامبرانت وبيكاسو وكوليڤيتس في المتاحف الكلاسيكية، إلى الفن المعاصر الجريء في المعرض الوطني الجديد و«هامبورغر بانهوف».
في المقابل، يعرض متحف «بوروس» أعمالاً فنية تجريبية داخل مخبأ يعود للحرب العالمية الثانية، بينما يقدم متحف «فوتوغرافيسكا» مجموعات تصوير فنية مثيرة للجدل.
ولا بد من زيارة «منتدى هومبولت»، المركز الثقافي الجديد المقام داخل نسخة من القصر البروسي التاريخي، والذي يضم متحف الإثنولوجيا ومتحف الفنون الآسيوية، حيث تعرض تحفاً فنية من آسيا وإفريقيا وأستراليا والأمريكتين، وتناقش قضايا الملكية الثقافية والإرث الاستعماري.
إن برلين ليست مجرد مدينة، بل تجربة متعددة الأوجه تجمع بين التاريخ والثقافة، الحرية والإبداع، والجدية والفوضى الجميلة.
إنها المكان الذي يروي قصة أوروبا الحديثة، ويعكس قدرة الإنسان على التجدد والنهوض من رماد الماضي. ومن متاحفها الفخمة إلى فنون شوارعها، من صخب لياليها إلى هدوء بحيراتها، تظل برلين مدينة تُعاش أكثر مما تُزار، وتبقى دائماً في ذاكرة زائرها كأنها وعد بالعودة.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
