اقتصاد / صحيفة الخليج

تُعيد رسم خريطة الدولار

د. رامي كمال النسور *

لم يعد الحديث عن نهاية هيمنة الدولار مجرد تكهّن أو طرح نظري، بل أصبح واقعاً يتجسّد تدريجياً على الأرض، تقوده بخطوات محسوبة وواثقة في إطار مشروع استراتيجي أوسع لإعادة صياغة النظام المالي العالمي.
وفي تحرك صيني جريء يربك الأسواق وخطوة تحمل أبعاداً تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة العالمية، أعلنت بكين حظر جميع الشحنات الجديدة من خام الحديد الأسترالي القادم من شركة «BHP» مشترطة أن تتم كافة التعاملات التجارية المقبلة باليوان الصيني بدلاً من الدولار .
قد يبدو القرار للوهلة الأولى تجارياً بحتاً، لكنه في حقيقته جزء من خطة طويلة الأمد لتقليص النفوذ المالي الأمريكي، وفك الارتباط بمنظومة الدولار التي ظلت لعقود حجر الزاوية في التجارة الدولية.
ففي عام 2010، لم تتجاوز حصة اليوان من المدفوعات العابرة للحدود 0.3% فقط، مقابل هيمنة شبه مطلقة للدولار واليورو.
لكن بعد 13 عاماً، وتحديداً في عام ، قفزت هذه النسبة إلى 52.9%، متجاوزة الدولار الأمريكي للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وفق بيانات نظام المدفوعات الدولي الصيني (CIPS).
هذه القفزة لا تمثل مجرد توسع في استخدام العملة، بل تحولاً هيكلياً في موازين القوى المالية، حيث بات اليوان اليوم يُستخدم على نطاق واسع في تسويات تجارة النفط مع روسيا، والغاز مع إيران، والمعادن مع إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
والسؤال هنا لماذا خام الحديد؟ اختيار الصين لخام الحديد ليس صدفة، بل ورقة ضغط استراتيجية.
فهي أكبر منتج للصلب في العالم، وأكبر مستورد لخام الحديد، ويأتي معظم وارداتها من أستراليا التي تعتمد اقتصادياً على السوق الصيني.
من خلال فرض التسوية باليوان، تدفع بكين شركاءها التجاريين إلى الانخراط في منظومتها المالية، ما يقلل من اعتمادهم على الدولار ويجعلهم جزءاً من الدائرة الاقتصادية الصينية المتنامية.
إن الاتفاق الجديد مع BHP يغطي نحو 30% من تجارة خام الحديد الفورية، وهو ما يجعله تحولاً محورياً في العلاقات التجارية العالمية، ويمهّد الطريق لاتفاقات مماثلة مع منتجين آخرين مثل فالي (Vale) البرازيلية وريو تينتو (Rio Tinto).
ومن خلال هذا التحول، تحقق الصين مجموعة من المكاسب الجوهرية، تحييد مخاطر تقلبات الدولار التي ترفع تكاليف الاستيراد والتسعير. وكذلك خفض تكاليف التمويل والتسوية الدولية بفضل نظامها المالي المستقل. أيضاً تعزيز النفوذ الجيوسياسي عبر فرض اليوان كعملة تسوية رئيسية في أسواق السلع. وأخيراً تحسين موقعها التفاوضي أمام الموردين الغربيين الذين أصبحوا أكثر اعتماداً على السوق الصينية. وفي الوقت نفسه، تدعم هذه الخطوة الهدف الأبعد لبكين وهو تدويل اليوان وبناء نظام مالي موازٍ للنظام الغربي يقوده الشرق هذه المرة.
إن الصين لم تكتفِ بالخطاب النظري، بل أنشأت بنية تحتية مالية متكاملة تدعم هذا التحول.
فإلى جانب بورصة داليان للسلع ونظام CIPS الذي يربط أكثر من 1300 مؤسسة مالية في 110 دول، طورت بكين أيضاً آليات مقايضة عملات (Swap Lines) مع أكثر من 40 دولة، بما في ذلك روسيا، والإمارات، والبرازيل، وجنوب إفريقيا.
هذه الشبكة تجعل من الممكن تسوية المعاملات باليوان من دون الحاجة إلى المرور بالدولار أو بالنظام الأمريكي.
هذه الخطوات الصينية تثير قلقاً متزايداً في واشنطن والعواصم الغربية، إذ تُضعف تدريجياً إحدى أدوات القوة الأمريكية الأكثر تأثيراً: التحكم بالنظام المالي العالمي.
كما أن توسع التعامل باليوان في أسواق السلع، خصوصاً النفط والحديد والنحاس، قد يدفع دولاً أخرى إلى تسريع اتفاقيات التسوية بعملاتها المحلية.
ومع الوقت، قد يشهد العالم نظاماً نقدياً متعدد الأقطاب تُقسم فيه التجارة العالمية بين الدولار واليوان واليورو، بدلاً من هيمنة عملة واحدة.
إن ما يحدث اليوم ليس تطوراً مؤقتاً، بل تحول استراتيجي عميق في المشهد المالي الدولي.
هيمنة الدولار على تجارة السلع بدأت تتآكل، والعالم يتجه نحو مرحلة جديدة من توازن القوى النقدية، حيث تلعب الصين دوراً قيادياً في رسم ملامح المستقبل الاقتصادي العالمي خطوة، وشحنة خام حديد، تلو الأخرى.
* المستشار في الأسواق المالية والحوكمة والاستدامة

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا