د. رامي كمال النسور*
في اجتماعٍ مفصلي عقدته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني مؤخراً، أقرّت بكين الخطة الخمسية الجديدة (2026 – 2030)، والتي تُعدّ من أكثر الخطط طموحاً في تاريخ البلاد الحديث. تهدف هذه الخطة إلى تعزيز الاعتماد على الذات، والتفوق التكنولوجي، والتحصين الاقتصادي ضد أي محاولات غربية لخنق النمو الصيني أو فرض هيمنة العقوبات عليه. والحقيقة أن الحديث عن هذه الخطة ومحاورها يجب أن يدفع كل الدول التي تبحث عن تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية وتحقيق نوع من الريادة في عالم اقتصادي لا مكان فيه إلا للكبار.
أول محاور هذه الخطة التحول من «المصنع العالمي» إلى «العقل العالمي»، فبعد عقود من اعتمادها على التصنيع الكثيف وتصدير السلع منخفضة التكلفة، تتجه الصين اليوم نحو الاقتصاد القائم على المعرفة والابتكار.
الخطة الخمسية الجديدة تضع في مقدمة أولوياتها تطوير قطاعات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وأشباه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة النظيفة، والفضاء، وهي المجالات التي تُعدّ خطوط التَّماس الاستراتيجية مع الغرب، خاصةً الولايات المتحدة وأوروبا.
القيادة الصينية ترى أن التفوق في الذكاء الاصطناعي والرقمنة هو مفتاح الصدارة في الاقتصاد العالمي القادم، لذلك تَضُخُّ استثمارات هائلة في الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الناشئة المحلية لتجاوز الاعتماد على التكنولوجيا الغربية.
يأتي بعدها المحور الثاني وهو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي وسلاسل الإمداد الوطنية حيث تسعى الصين إلى بناء اقتصاد لا يمكن «خنقه» بالعقوبات، عبر فصلٍ تدريجي عن النظام المالي الغربي، وتوطين سلاسل الإنتاج والإمداد الحساسة داخل حدودها.
ويشمل ذلك، زيادة إنتاج الرقائق الإلكترونية محلياً بنسبة 70% خلال خمس سنوات، وإنشاء «بنك التكنولوجيا الوطني» لدعم الشركات الناشئة، وتعزيز إنتاج الطاقة النظيفة والنووية، لتقليل الاعتماد على النفط المستورد. تطوير منظومة اليوان الرقمي لتقليص هيمنة الدولار في التجارة الدولية. وبهذه الخطوات، تسعى بكين لبناء اقتصاد محصّن ضد العقوبات الغربية، قادر على الاستمرار والنمو حتى في ظل عزلة مالية أو تجارية محتملة.
أما المحور الثالث فهو: «الذكاء الصيني أساس النهضة الجديدة» إذ تركّز الخطة على شعار متجدد يردده الرئيس شي جين بينغ: «الاعتماد على الذات والابتكار المحلي».
فالصين ترى أن ثروتها الحقيقية تكمن في عقول أبنائها لا في مواردها الطبيعية.
لذلك تتجه لرفع الإنفاق على البحث العلمي والتعليم بنسبة غير مسبوقة، وتشجع الكوادر الشابة على الإبداع المحلي بدل الاعتماد على النماذج الغربية. كما تشجع الخطة الشركات الخاصة، التي تشكل القلب النابض للاقتصاد، على الاستثمار في التقنيات الاستراتيجية، وتمنحها حماية قانونية أوسع ضمن «نظام رأسمالية الدولة ذات التوجيه المركزي».
بعد ذلك يأتي محور مهم وهو التوسع الخارجي والكتلة الاقتصادية الموازية فالصين لا تنوي الاكتفاء بالاعتماد على الذات داخليا فقط، بل تعمل على توسيع نفوذها الاقتصادي عبر مبادرة «الحزام والطريق»، وبناء تحالفات مالية وتجارية جديدة مع دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
هدفها النهائي هو تشكيل كتلة اقتصادية بديلة للنظام الغربي، قائمة على اليوان والتبادل المتكافئ بدلاً من الدولار وهيمنة واشنطن.
كما تستمر بكين في دعم مؤسسات موازية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ما يمنحها أدوات مالية مستقلة وواسعة التأثير.
أخيراً الصين ترسل رسالة واضحة إلى الغرب، ويؤكد الرئيس شي جين بينغ أن «قوة الصين الحقيقية تكمن في عقول أبنائها»، داعياً إلى الاعتماد على الذات والابتكار المحلي، مع دعم واسع للشركات الخاصة والباحثين والمبتكرين، وذاكراً أنه «لن يمكنكم خنق اقتصادٍ يعتمد على ذكاء مليار ونصف إنسان»، حيث تؤمن بكين أن الغرب فقد احتكاره للتكنولوجيا، وأن المستقبل لن يُحسم بالقوة العسكرية أو الدولار وحده، بل بالعقول، والابتكار، والسيادة الاقتصادية.
ختاماً تُجسد الخطة الخمسية الصينية الجديدة مرحلة ما بعد الصعود، إذ لم تعد بكين تسعى فقط للنمو، بل لزعامة اقتصادية مستقلة لا يمكن تقييدها بالعقوبات أو التبعية.
إنها خطة تؤسس لعصر جديد من التوازن العالمي، حيث لن تكون الصين مجرد لاعب رئيسي، بل ربما القوة الاقتصادية الأولى في النظام الدولي القادم.
وأدعو بدوري وأشجع الدول العربية الرائدة على المضي قدماً في وضع خطط تنموية مماثلة تستلهم التجربة الصينية في الاعتماد على الذات، وتنمية القدرات الوطنية، واستثمار الذكاء المحلي، بما يعزز سيادتها الاقتصادية ويمنحها مكانة متقدمة في النظام العالمي الجديد.
* المستشار في الأسواق المالية والحوكمة والاستدامة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
