في أواخر عام 1902، ضربت ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا حصارًا بحريًا على فنزويلا المثقلة بالديون، وألحقت بأسطول الدولة اللاتينية هزيمة تلو الأخرى، ومع تطور الأحداث بدأت بقصف المدن الساحلية في هجمات أسفرت عن سقوط قتلى وتدمير مرافق حيوية.

في البداية تساهلت الولايات المتحدة مع كل هذا، باعتباره مجرد ضغط على فنزويلا من أجل سداد ديونها للأوروبيين، لكن بمجرد أن بدأت ألمانيا تلمح إلى احتلال موانئ فنزويلا وفرض سيطرة دائمة لضمان سداد الديون اعتبرت واشنطن ذلك "خطًا أحمر".
الرئيس الأمريكي وقتها "ثيودور روزفلت" وجّه تحذيرًا شديدًا للأوروبيين بأن الولايات المتحدة لن تسمح بأي تدخل بري أو محاولة للاستيلاء على أراض فنزويلية، وهو موقف – رغم تأخره – لم يكن مستغربًا نظرًا لـ "مبدأ مونرو" الذي تبنته واشنطن عام 1823.
ينص هذا المبدأ على ضمان استقلال كل دول النصف الغربي للكرة الأرضية، وعلى أن أي محاولة من الدول الأوروبية لاستعمار الأراضي أو التدخل في شؤون دول المنطقة ستعتبرها واشنطن عملاً عدائياً يتطلب تدخلًا أمريكيًا.
إلحاقًا بهذا المبدأ، جاء إعلان "روزفلت" عام 1904 والذي نص على أن الولايات المتحدة ستتصرف كـ "قوة شرطية دولية" في المنطقة إذا لزم الأمر، ويشمل ذلك منع التدخلات الأجنبية في المنطقة وضمان وفاء الدول بالالتزامات تجاه الدائنين.
- اليوم، باتت واشنطن على أعتاب تدخل جديد ينبع من منطلق تنصيب نفسها كـ "قوة شرطية في المنطقة"، إذا تواصل حشد قواتها الضاربة في البحر الكاريبي ومحيط أمريكا الجنوبية، بزعم أنها تتصدى للعصابات الإجرامية.. لكن هل يمكن أن يكون هناك غرض آخر من هذا الحراك؟

حملة ترامب الجنوبية
- على مدار الأسابيع الماضية، عزز الجيش الأمريكي تواجده في منطقة بحر الكاريبي، وشنت قواته المحتشدة (نحو 10 قطع بحرية بالإضافة إلى طائرات إف-35) أكثر من 10 ضربات ضد سفن قرب فنزويلا، بزعم أنها مرتبطة بعصابات إجرامية، وتسببت في سقوط نحو 60 قتيلًا.
- كان التحول الأكبر عندما أعلن البنتاجون توجيه حاملة الطائرات "جيرالد فورد" إلى سواحل أمريكا الجنوبية، وهي إحدى أكثر وحدات سلاح البحرية الأمريكي تطورًا، وتعد الأكبر من نوعها في العالم، ويشغلها 5 آلاف بحار، وتعمل بالطاقة النووية، وبلغت تكلفتها 13 مليار دولار.
- جاء ذلك بعدما قال "ترامب" في منتصف أكتوبر، إنه أذن لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) بإجراء عمليات سرية داخل فنزويلا، وبعدما ضاعفت واشنطن، في أغسطس، مكافأة الإدلاء بمعلومات تؤدي إلى اعتقال "مادورو" إلى 50 مليون دولار.
- التصريح الأكثر صراحة وصدمة من "ترامب"، كان عندما قال إن الولايات المتحدة "تتطلع إلى البر، وتتطلع إلى شن المزيد من الضربات على عصابات المخدرات في المنطقة"، في إشارة إلى تنفيذ عمليات أو ربما تواجد عسكري على الأرض.
- على الجانب الآخر، فإن رئيس فنزويلا "نيكولاس مادورو" (الذي تدعي أمريكا ارتباطه بتهريب المخدرات وتراه "رئيسًا غير شرعي) اتهم واشنطن بـ "افتعال حرب جديدة"، وبدأ حشد قواته ونشرها على "جبهات القتال"، وتشكيل مجموعات شعبية مسلحة ردًا على "الاعتداء الأمريكي المحتمل".
- دعمت فنزويلا مزاعمها بالادعاء أنها فككت خلية تابعة لـ "CIA" كانت تخطط لمهاجمة سفينة حربية أمريكية في ترينداد وتوباجو، من أجل إلصاق التهمة بكاراكاس، وتبرير الحرب عليها.

تاريخ من "الفوضى الخلاقة"
- في حين أن مبادئ "مونرو" و"روزفلت" يبدو أنها تحمي المنطقة من التدخلات الخارجية، إلا أنها قد تفسر أحيانًا باعتبارها تجسيداً لـ "النزعة الأمريكية للهيمنة على المنطقة"، وهذا مدعوم بأدلة تاريخية عدة.
- دبرت الاستخبارات الأمريكية انقلاب غواتيمالا عام 1954، للإطاحة بالرئيس "جاكوبو أرابينز" المنتخب بشكل ديمقراطي، وللقضاء على الثورة الغواتيمالية وتثبيت الحكم لصالح "كارلوس كاستيلو أرماس"، وذلك لاعتبارات إيديولوجية ولضمان مصالح شركة الفاكهة المتحدة (UFC).
- أضف إلى ذلك غزو الولايات المتحدة لبنما عام 1989 وخلع الرئيس "مانويل نورييغا"، الذي تعاون لفترة طويلة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، قبل أن تنقلب واشنطن عليه، بزعم تورطه في تهريب المخدرات والابتزاز المالي، وبالطبع بسبب "ديكتاتوريته".
- لكن الخطة الأسوأ جاءت في ذروة الحرب الباردة عام 1962 وحملت الاسم "نورثوودز"، وذلك بعد فشل محاولة للإطاحة بـ "فيدل كاسترو"، فخطط قادة الجيش الأمريكي لاختلاق مبرر يسمح لهم بغزو كوبا مباشرة، وفقًا لما كشفته الوثائق المفرج عنها في التسعينيات.
- كان الأمريكيون على استعداد لفعل أي شيء يحقق غايتهم، حيث اقترحت الخطة تفجير واختطاف سفن وطائرات مدنية أمريكية، وتنظيم عمليات إرهابية مزيفة داخل البلاد، وتلفيق هجوم على الجيش، وإلصاق التهم بكوبا لتبرير الغزو المحتمل، لكن الرئيس "جون كينيدي" (الذي اغتيل عام 1963) رفضها واعتبرها عملًا غير أخلاقي.
الولاية الأمريكية رقم 51
- ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، أن "مادورو" عرض حصة في ثروات فنزويلا النفطية والمعدنية الأخرى خلال الأشهر الأخيرة لدرء الضغوط الأمريكية المتزايدة، وهو ما أكده الرئيس الأمريكي لاحقًا.
- لكن عندما سئل "ترامب" في مؤتمر صحفي عن هذا العرض، ردّ بـ"لقد عرض كل شيء، هل تعلمون لماذا؟ إنه لا يريد العبث مع الولايات المتحدة"، وهو رد لا يبدو مشجعًا من الناحية التفاوضية.

- "جيمس ستوري"، آخر سفير أمريكي لدى فنزويلا، يرى أن تحركات واشنطن في المنطقة تهدف إلى الإطاحة بـ "مادورو"، قائلًا: "هذا طرف فاسد للغاية، يتحكم في أكبر احتياطيات نفطية في العالم، بالإضافة إلى المعادن الأساسية التي تغذي اقتصاد القرن الـ 21، وهو على علاقةٍ وطيدةٍ بمنافسينا الاستراتيجيين".
- الأمر الأكثر إثارة في هذا السياق هو موقف "ماريا كورينا ماتشادو"، المعارضة الفنزويلية الحائزة مؤخرًا على جائزة "نوبل" للسلام، والتي ترى أن التصعيد العسكري الأمريكي هو "السبيل الوحيد لإجبار مادورو على إدراك أن وقت الرحيل قد حان".
- عندما تولى "ترامب" الحكم لولاية ثانية، هذا العام، ظن البعض حقًا أنه سيسعى لجعل كندا الولاية 51، أو ربما جرينلاند، لكن لم يصدر عنه في هذا الشأن "سوى الكلام" حتى الآن، فمثل هذه المناطق (حتى وإن كانت تطمع بها أمريكا) فإنها تخضع لحسابات وتحالفات معقدة.
- لكن بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة، التي اعتمدت تاريخيًا على شراء الأراضي أو ضمها قسرًا من أجل التوسع الجغرافي والاقتصادي، تبدو فنزويلا لقمة سائغة ومليئة بالفوائد، كونها بلد مليء بالثروات لكن محاصر بالعقوبات ويفتقر للاستثمارات.
- أفادت تقارير صحفية، الأسبوع الماضي، بأن "ترامب" حدد بالفعل أهدافًا في فنزويلا بينها منشآت عسكرية لاستهدافها، تحت ذريعة "استخدامها في تهريب المخدرات"، لكن الرئيس الأمريكي عندما سئل عن اتخاذه قرار كهذا اكتفى بالرد بـ "لا".
ما العائد؟
- تخيل سيناريو تضخ فيه الدولارات لاستخدامها في المعاملات اليومية داخل فنزويلا بدلًا من البوليفار الذي فقد 99% من قيمته، مع امتيازات مثل حق دخول أمريكا أو تسهيلات للعمل هناك، العروض المغرية ستكون كثيرة لشعب عانى الأمرين بسبب سوء إدارة البلاد منذ سنوات.
- أما بالنسبة لـ "ترامب" فسيكون قادرًا على مواجهة الجريمة خارج أرضه، ومنع تدفق الهجرة، و"مكافحة الشيوعية"، لكن الجوهرة الأغلى على الإطلاق في هذه الحملة، ستكون السيطرة على أكبر احتياطي نفطي في العالم (303 مليارات برميل).
- قدرة أمريكا على التحكم في الاحتياطيات الفنزويلية، تعني نفوذًا أكبر على أسواق النفط العالمية، كما يشكل فرصة استثنائية للشركات الأمريكية التي ستجد سبيلًا لاستخراج الخام بتكلفة زهيدة مقارنة بسعر التعادل البالغ 65 دولارًا لبرميل الخام الصخري.

- فنزويلا التي كانت يومًا بين أغنى دول العالم، تحتاج إلى استثمارات بقيمة 58 مليار دولار لإنعاش إنتاجها النفطي إلى مستويات عام 1998 البالغة 3.4 مليون برميل يوميًا مقارنة من نحو مليون برميل يوميًا حاليًا، وهو رقم لا يبدو ضخمًا للشركات الأمريكية، لكنه قد يساعد البلد اللاتيني كثيرًا.
- المصالح النفطية والاستراتيجية الأمريكية عالية، لكن التكاليف المحتملة (إنسانية وسياسية واقتصادية) أعلى، وأي تحرك أمريكي سيشعل التوترات مع روسيا والصين، وتهمة التوسع الإمبريالي ستلاحق واشنطن إذا أقدمت على إرسال جنودها إلى كاراكاس.
- أعلنت أمريكا الحرب رسميًا 11 مرة، وكانت آخر مرة خلال الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن التدخل في فيتنام وأفغانستان والعراق، لم يصنف كحرب لأنه لم يحدث بدعوة من الكونجرس، وهذا يعني أن "ترامب" بإمكانه شن عملية عسكرية ضد فنزويلا، حتى إذا عارضه المشرعون.
- لكن يظل السؤال المهم: هل يعتزم ترامب فعلًا الإطاحة بـ "مادورو" على غرار ما حدث في بنما أو جواتيمالا؟ أو حتى الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك لضمان السيطرة على ثروات فنزويلا؟ أم أنه مجرد استعراض مبالغ فيه للقوة؟
المصادر: أرقام- إيه بي سي- الأرشيف الأمني القومي الأمريكي- نيويورك تايمز- رويترز- بي بي سي- سي إن إن- وكالة الأنباء الفرنسية- الجارديان- ميامي هيرالد- الفيدرالي في دالاس- سي بي إس نيوز- بلومبرج- وول ستريت جورنال- بزنس إنسايدر- واشنطن بوست- شات جي بي تي- كلود
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
