شهدت صناعة ألعاب الفيديو العالمية، التي تتجاوز قيمتها السوقية 200 مليار دولار، تحولاً جذرياً في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بالاستحواذات الضخمة والمبالغ الاستثمارية الهائلة. وفي قلب هذا التحول تقف المملكة العربية السعودية، ممثلة في صندوق الاستثمارات العامة (PIF) وذراعه المتخصص في الألعاب، مجموعة سافي للألعاب الإلكترونية (Savvy Games Group أو SGG). لقد أثارت تحركات الصندوق السعودي اهتماماً عالمياً، حيث انتقل من كونه مستثمراً صامتاً إلى لاعب استراتيجي يسعى لامتلاك حصص مؤثرة، أو حتى الاستحواذ الكامل، على عمالقة الصناعة. هذا الانتقال نحو الملكية الكاملة، والذي تأكد مؤخراً بعملية استحواذ غير مسبوقة، يطرح تساؤلاً ملحاً حول الهدف التالي. ويقف اسم شركة يوبي سوفت (Ubisoft)، عملاق النشر الفرنسي المسؤول عن سلاسل شهيرة مثل Assassin’s Creed وFar Cry، في صدارة قائمة التكهنات. يأتي هذا التحليل لفهم الأسباب التي تجعل يوبي سوفت هدفاً مثالياً للاستراتيجية السعودية الطموحة، وكيف يمكن أن يتم هذا الاستحواذ فعلياً، خاصة بعد أن أعادت عملية الاستحواذ الأخيرة على إلكترونيك آرتس (EA) تعريف حدود طموحات SGG. الجزء الأول: تغيير قواعد اللعبة – الاستحواذ التاريخي على EA في خطوة هزت الأسواق العالمية، أعلن صندوق الاستثمارات العامة، عبر ذراعه الاستثماري في قطاع الألعاب، عن الاستحواذ الكامل على شركة إلكترونيك آرتس (EA). يمثل هذا الإعلان نقطة تحول كبرى، حيث ينتقل PIF/SGG من مرحلة الاستثمار الجزئي في أسهم الأقلية، إلى الاستحواذ الاستراتيجي والملكية الكاملة لناشر من الفئة الأولى. سابقة تاريخية تغير الميزان كانت العلاقة السابقة بين الصندوق السعودي وشركة EA تقتصر على امتلاك حصة أقلية كبيرة، هدفها التنويع المالي. أما الاستحواذ الأخير، فيؤكد ثلاثة أمور أساسية: قدرة SGG المالية: يثبت أن ميزانية 38 مليار دولار المخصصة لمجموعة سافي، قابلة للاستخدام بشكل فوري وفي عمليات شراء ضخمة. تتجاوز قيمة EA السوقية بكثير التقييمات التقليدية، مما يؤكد أن PIF على استعداد لتقديم عروض نقدية مغرية للغاية للاستحواذ على الأصول التي تحقق عوائد استراتيجية. السيطرة التشغيلية هي الهدف: لم يعد الهدف هو جني الأرباح من ارتفاع سعر السهم، بل السيطرة على سلاسل الإنتاج والتطوير وإدارة محفظة الأصول الفكرية (IP) الخاصة بناشر عالمي، مثل سلاسل EA Sports FC (FIFA سابقاً)، وBattlefield، وApex Legends. إعادة التموضع الجيوسياسي: وضع هذا الاستحواذ SGG/PIF مباشرة كأحد أكبر المالكين في صناعة الألعاب العالمية، منافساً بذلك لعمالقة مثل مايكروسوفت وتينسنت وسوني. هذا التحول، المتمثل في امتلاك EA، يرفع سقف التوقعات لأي هدف استثماري قادم، ويجعل يوبي سوفت، التي تعتبر أصغر وأكثر ضعفاً من الناحية الإدارية، هدفاً محتملاً ومنطقياً لتحقيق المزيد من التوسع. الجزء الثاني: الرؤية السعودية 2030 ومجموعة سافي للألعاب (SGG) إن الدافع وراء هذه التحركات العملاقة ليس مجرد جمع الأرباح، بل هو جزء لا يتجزأ من “رؤية 2030” للمملكة. وتتمحور هذه الرؤية حول التحول الاقتصادي، وتمكين القطاعات غير النفطية، وبناء صناعات معرفية محلية في مجال الألعاب والرياضات الإلكترونية. صندوق بقيمة 38 مليار دولار في عام 2022، أطلقت المملكة استراتيجية طموحة لـ “سافي للألعاب الإلكترونية” (SGG)، بتخصيص ميزانية تصل إلى 142 مليار ريال سعودي (ما يعادل حوالي 38 مليار دولار). وتضم هذه الاستراتيجية أهدافاً واضحة: الاستحواذ على عمالقة النشر: تخصيص مبلغ ضخم للاستحواذ على “مطور وناشر ألعاب رائد” بهدف جعله تحت مظلة وبعد امتلاك EA، من المرجح أن يُعاد تخصيص هذا المبلغ للبحث عن هدف ثانٍ يكمل محفظة SGG. بناء نظام بيئي محلي: استثمار 18 مليار دولار في الاستحواذ على حصص أقلية في شركات أخرى ودعم الشركات الناشئة المحلية والجهود المبذولة لتطوير الألعاب في المملكة. إن امتلاك EA يضع SGG في موقع قوة للبحث عن شركات تكمّل محفظتها. فإذا كانت EA قوية في الرياضات والألعاب الموجهة للغرب، فإن يوبي سوفت تقدم محفظة أكثر تنوعاً في ألعاب العالم المفتوح والأكشن الاستراتيجية. الجزء الثالث: يوبي سوفت في مرمى الأنظار بعد تحقيق هدف EA، يبرز السؤال: هل سيكون الاستحواذ على يوبي سوفت (Ubisoft) الصفقة التالية؟ تأسست يوبيسوفت عام 1986 في فرنسا، وتُعدُّ من أهم دور تطوير ونشر الألعاب المفتوحة والعالمية، تملك علامات تجارية مشهورة مثل Assassin’s Creed، Far Cry، وRainbow Six تُدرُّ إيرادات سنوية تتجاوز 2.5 مليار دولار وتملك شبكة استوديوهات في أوروبا وأمريكا وآسيا. كان هناك الكثير من الشائعات التي أشارت إلى أن صندوق الاستثمارات العامة السعودية قد يسعى للاستحواذ الكلي أو الجزئي على الشركة الفرنسية. من بينهم الصحفي الشهير جيسون شراير الذي قال في أبريل الماضي بأنه يتوقع أن Savvy Games Group ستستحوذ Ubisoft. وقد أعرب المحلل مايكل باكتر عن رأيه في احتمالية استحواذ شركة سافي السعودية على يوبيسوفت، والتي دارت حولها شائعات كثيرة في الشهور الماضية. يرى المحلل أن هذا الاستحواذ في مصلحة الطرفين، بالنسبة لمجموعة سافي، فإن يوبي سوفت شركة واعدة ولديها عناوين قوية قد تدر أرباحًا ضخمة على سافي كمستثمر، أما من ناحية يوبيسوفت فلن تمتلك الشركة مشاكل مادية نظرًا للدعم المرتقب الذي ستقدمه شركة سافي في حالة إتمام الاستحواذ. لماذا تعتبر يوبيسوفت الهدف الأكثر جاذبية الآن؟ تتميز يوبيسوفت بخصائص تجعلها هدفاً “جاهزاً للاستحواذ” أو “في وضع حرج” أكثر من أي ناشر آخر، خاصةً بعد أن أصبحت EA جزءاً من محفظة SGG. 1. القيمة السوقية المغرية (The Low Valuation): على مر السنين، عانت يوبيسوفت من تأخير الألعاب والأداء المالي المتقلب، مما أدى إلى تداول أسهمها عند تقييم أقل بكثير مقارنة بقيمة أصولها الفكرية الحقيقية. القيمة السوقية ليوبي سوفت، على الرغم من تقلباتها، تظل في نطاق يسهل ابتلاعه لـ SGG، التي أظهرت استعدادها لتقديم عروض تفوق التقييم السوقي بكثير، كما حدث مع EA. 2. ثروة الأصول الفكرية (The IP Crown Jewels): تمتلك يوبي سوفت كنزاً من الأصول الفكرية الراسخة والمربحة التي تعتبر ضرورية لاستراتيجية SGG العالمية: Assassin’s Creed: واحدة من أنجح سلاسل الأكشن والمغامرات في التاريخ. Rainbow Six (Siege): أحد أعمدة الرياضات الإلكترونية والألعاب الخدمية المربحة التي تحقق تدفقاً نقدياً مستمراً. Far Cry و Watch Dogs و The Division. إن إضافة هذه السلاسل إلى محفظة EA التي تملكها SGG سيجعلها قوة لا تُقهر في جميع أنواع الألعاب. 3. التعاون الاستراتيجي العميق بين السعودية و (Assassin’s Creed Mirage ): هناك دليل ملموس على أن العلاقة بين السعودية ويوبي سوفت تتجاوز مجرد الاهتمام المالي. فقد تم الإعلان عن تعاون بين يوبيسوفت والهيئة الملكية لمحافظة العلا لتطوير محتوى خاص بلعبة Assassin’s Creed Mirage. هذا المحتوى الترويجي، الذي يركز على تعريف الجمهور العالمي بالمواقع التاريخية لمدينة العلا، يمثل دمجاً استراتيجياً عميقاً بين الأجندة الثقافية السعودية والملكية الفكرية الأكثر شهرة ليوبيسوفت. يمكن النظر إلى هذا التعاون على أنه جسر استراتيجي أو فترة اختبار للتوافق التشغيلي والثقافي بين الطرفين قبل الالتزام بصفقة استحواذ كاملة. هذا التداخل يعزز الفكرة بأن يوبيسوفت ليست مجرد هدف مالي، بل شريك محتمل طويل الأجل. 4. معضلة عائلة غيليموت على الرغم من مقاومة عائلة غيليموت (Guillemot) التامة للتخلي عن السيطرة التاريخية، فإن الضغوط المالية وتراجع قيمة الأسهم تجعل موقفهم أضعف. لقد واجهت العائلة محاولات استحواذ سابقة من تينسنت، ولكن قوة العرض المالي التي يمكن لـ SGG تقديمه، خاصة بعد سابقة EA، قد تكون كافية لإقناع المساهمين والعائلة ببيع حصصهم مقابل عرض نقدي لا يمكن رفضه. التأثير على الصناعة العالمية والمحلية – توسع الاستثمار الخليجي مع إتمام صفقة يوبي سوفت، سيتضاعف حجم الأصول السعودية في صناعة الألعاب، ما يعزّز مركز دبي والرياض كمراكز إقليمية للألعاب الإلكترونية. – اندماج ثقافي سيتولد عن هذا التحالف محتوى ترفيهي جديد يحاكي الثقافة العربية ويصل إلى جمهور عالمي، ما يدعم الخطط الوطنية لإثراء المشهد الثقافي والرقمي. – تنمية القطاع التعليمي تطبيق برامج تدريبية مشتركة مع جامعات كبرى في فرنسا وكندا يخلق جسر معرفة يعود بالنفع على الأجيال القادمة في المملكة. – دمج الخبرات مع EA وجود كلتا الشركتين تحت لواء الصندوق السعودي يوفر مجالاً لخلق عناوين ألعاب مشتركة أو تجميع تقنيات لمحركات ألعاب موحدة. – انطلاقة للمواهب السعودية إطلاق برامج تدريبية داخل يوبي سوفت لطلاب الجامعات السعودية يُعزّز الجسر بين الصناعة الأكاديمية وسوق العمل الرقمي. – تركيز على الأسواق الناشئة عبر تواجد يوبي سوفت في آسيا وأمريكا اللاتينية، سيتم توفير بوابات نفوذ جديدة للصندوق السعودي لاستهداف أسواق الألعاب الأعلى نمواً. الجزء الرابع: السيناريوهات المحتملة لصفقة Ubisoft بناءً على الاستراتيجية العدوانية الجديدة التي اتبعتها SGG في الاستحواذ على EA ، يمكن توقع أحد السيناريوهين التاليين: السيناريو الأول: الاستحواذ الكامل والمباشر (The Full Takeover) بعد إثبات القدرة على إتمام صفقة EA العملاقة، ستصبح عملية الاستحواذ على يوبي سوفت أقل صعوبة مالياً. ستقدم SGG عرضاً نقدياً سخياً يتجاوز قيمة السهم السوقية، مع هدف واضح يتمثل في نزع ملكية الشركة وتحويلها إلى شركة خاصة ضمن محفظة SGG. في هذا السيناريو، يشكل الصندوق تحالفاً مع شركاء ماليين للحصول على 100% من أسهم يوبي سوفت. قد يصل ثمن الصفقة إلى 10–15 مليار دولار، وفق تقييمات السوق الحالية. المزايا لـ SGG: تكامل الأصول: دمج محفظة EA ومحفظة يوبي سوفت تحت إدارة واحدة. السيطرة الكاملة على IP: امتلاك الأصول الفكرية واتخاذ القرارات الاستراتيجية (مثل توسيع الألعاب الخدمية والرياضات الإلكترونية). السيناريو الثاني: الشراكة الاستراتيجية ذات الأغلبية (The Strategic Majority Stake) قد تختار SGG نهجاً أكثر نعومة، خاصة لحساسية يوبي سوفت الثقافية وكيانها الفرنسي الكندي. يتمثل هذا السيناريو في شراء حصة أغلبية (أكثر من 50% من أسهم المساهمين)، أو ربما استثماراً جزئياً حيث قد يقتصر الصندوق على حصة مسيطرة تتراوح بين 30–40%. مع ترك دور محدود لعائلة غيليموت في الإدارة التنفيذية لضمان استمرار الخبرة الفنية. هذا قد يقلل من الاحتكاك التنظيمي والحكومي. السيناريو الثالث: تحالف مع مستثمرين أوروبيين قد يفضل الصندوق إبرام شراكة مع جهات استثمارية مثل «كوغيتو كابيتال» أو صناديق الاستثمار الأوروبية لتخفيف مخاطر المواجهة التنظيمية وضمان قبول أوسع داخل فرنسا والاتحاد الأوروبي. الجزء الخامس: التحديات الجيوسياسية والثقافية أي استحواذ على شركة غربية كبرى مثل يوبي سوفت سيواجه تحديات، ولكن نجاح صفقة EA أثبت أن هذه التحديات ليست مستحيلة التجاوز. 1. الحواجز التنظيمية (Regulatory Hurdles): ستكون الموافقات الحكومية الفرنسية والكندية عقبة أمام مثل هذه الصفقة. يوبي سوفت هي شركة فرنسية تُعتبر جزءاً من التراث الثقافي. فإن حصول صندوق سعودي على حصّة مسيطرة سيخضع لمراجعات صارمة من مفوضية المنافسة الأوروبية. قد تتدخل الحكومتان لحماية الوظائف المحلية أو فرض شروط صارمة بشأن الملكية الفكرية، لكن حجم صفقة EA ونجاحها يمنح SGG سابقة قوية لتسويق الصفقة على أنها “استثمار استقرار” وليس “تفكيك”. 2. التحديات الثقافية والاجتماعية: قد يثير موظفو يوبي سوفت، خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية، تساؤلات حول التغيير في الملكية. ولكن الضمانات المالية والالتزام الواضح لـ SGG بدعم الاستوديوهات الحالية، وهي نفس الوعود التي تم تقديمها خلال صفقة EA، يمكن أن تخفف من حدة هذه المخاوف. التعاون في العلا يمهد الطريق أيضاً لقبول ثقافي أوسع لهذه الشراكة. الخلاصة: يوبي سوفت في مرمى SGG بالعودة إلى السؤال المحوري: هل تستحوذ السعودية على يوبي سوفت؟ إن الإجابة، في ضوء التحول الاستراتيجي الذي أكده الاستحواذ على EA، هي أن الاستحواذ على يوبي سوفت أصبح أكثر ترجيحاً ومنطقية من أي وقت مضى. المنطق المالي: يوبي سوفت هي الهدف الأبرز المتاح الذي يكمل محفظة EA ويستحق الاستثمار بـ “عرض سخي” لانتزاع السيطرة. المنطق الاستراتيجي: يضمن الاستحواذ على يوبي سوفت ملكية سلسلة Assassin’s Creed وغيرها من الأصول الضرورية لتعزيز التواجد في الأسواق الغربية. المؤشرات التمهيدية: التعاون المباشر لتطوير محتوى العلا في Assassin’s Creed Mirage هو مؤشر عملي على أن هناك علاقة استراتيجية عميقة يتم بناؤها خلف الكواليس، وهو تكتيك ذكي لتمهيد الطريق لصفقة أكبر. إذا تم إبرام هذه الصفقة، فإنها لن تكون مجرد عملية شراء، بل ستكون تأكيداً على أن SGG لا تتوقف عند الاستحواذ على ناشر واحد، بل تهدف إلى بناء إمبراطورية ألعاب عالمية تُعاد فيها صياغة خريطة القوى في الصناعة، وتنتقل فيها عاصمة الاستثمار الرقمي العالمي نحو الشرق.