الاحتيال في التأمين الصحي لا يتخذ شكلاً واحداً، بل يتوزع على طيف واسع من الممارسات التي بات بعضها مألوفاً في بيئة الخدمات الطبية الخاصة، مثل إصدار تقارير مرضية غير دقيقة لتبرير فحوصات لا لزوم لها، أو تضخيم قيمة الإجراءات الطبية، أو تكرارها دون مبرر، أو تورط بعض شركات التأمين في غض الطرف مقابل صفقات تعاقدية. كما أنه ما يزيد المشهد تعقيداً أن هذه الممارسات لا تُواجه غالباً بمنظومة متابعة فاعلة، بل تُطوى في تقارير داخلية أو تُترك لتقدير المنشأة الصحية ذاتها، وكأن الرقابة خيار لا ضرورة.
المسألة هنا لا تنحصر في تجاوز فردي، بل تتسع لتُنتج آثاراً تمس الجميع. فهذه الممارسات ترفع من تكاليف التأمين على الأفراد والشركات، وتُضعف ثقة المواطن في جدوى التغطية، وتشوّه التوازن المالي لشركات التأمين، وتُرهق بشكل أو بآخر المالية العامة للدولة، في الوقت الذي تعمل فيه الحكومة على ترسيخ كفاءة الإنفاق كأحد ركائز الرؤية الوطنية.
ومن زاوية قانونية، يبرز تساؤل لا يمكن تجاوزه: هل نمتلك اليوم تشريعاً صريحاً يُجرّم الغش التأميني الطبي بصيغته الحديثة؟ الحقيقة أن نظام التأمين الصحي التعاوني، رغم شموليته، لا يتضمن حتى الآن مواد واضحة تتعامل مع هذه الأفعال باعتبارها «احتيالاً ممنهجاً». هذا الفراغ لا يُبرر فقط، بل يستدعي تدخلاً تشريعياً عاجلاً لتجريم هذه السلوكيات، وتجهيز الهيئة الرقابية بأدوات تنفيذية فعّالة.
إذا أردنا الاستجابة لتحذير الشورى بطريقة مسؤولة، فإن الحل لا يكمن في مجرد الدعوة لتفعيل الرقابة، بل في بناء منظومة متكاملة تتوزع على أربعة مسارات مترابطة:
• رقمنة ذكية: ربط مباشر بين ملفات المرضى وسجلات شركات التأمين، وتوظيف تقنيات الذكاء الصناعي لرصد الأنماط الاحتيالية، واستحداث مؤشرات إنذار مبكر للحالات الخارجة عن المعدلات الطبيعية.
• تشريع رادع: إدراج مواد صريحة في نظام التأمين الصحي تُجرّم الغش التأميني، مع منح الجهات المختصة صلاحية الإيقاف المؤقت أو الدائم، وتحميل شركات التأمين المسؤولية حال ثبوت العلم أو التواطؤ.
• حوكمة رقابية: استحداث وحدة تحقيق مستقلة داخل الهيئة، ترتبط إلكترونياً بأنظمة الترخيص والمخالفات، وتصدر تقارير فصلية للجهات الرقابية العليا.
• تصحيح ثقافي: إطلاق حملات توعوية وطنية تُرسّخ أن التأمين أمان لا غنيمة، ودمج مفاهيم الأمانة التأمينية ضمن برامج التعليم الصحي والتدريب المهني.
الحديث عن التأمين الصحي ليس ترفاً تنظيمياً، بل جزء من منظومة الأمن الوطني الصحي، ومفتاحٌ من مفاتيح العدالة الاجتماعية الحديثة. وتحذير الشورى لا يجب أن يُقرأ كعتب مؤسساتي، بل كفرصة لإعادة ضبط البوصلة، ومناسبة لإثبات أن الدولة جادة ليس فقط في تغطية العلاج فحسب، بل في حماية التأمين نفسه من العبث.
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.