نبيل عمر
سوريا.. رحلة إجبارية إلى المجهول!
لو كان فيلمًا سينمائيًا عن أسطورة سقوط ديكتاتور فينيقى غبى بالطريقة التى انهار بها حُكم بشار الأسد فى سوريا، ما صدقناه وربما هتفنا ضد المُخرج والسيناريست والممثلين والمنتج ودار العرض، واتهمناهم بالغش والتدليس والخيال الأحمق!
بل إن بشار الأسد نفسه لم يُصدّق أن حُكمه ينهار كبيت عنكبوت، وكاد عقله يذهب بغير رجعة، فلم يعد يسمع أو يتكلم أو يأمر أو يفهم، وبدت له نصائح مستشاريه صدَى صوت من فضاء بعيد، بأن يصدر بيانًا يتعهد فيه بعدم ترشيح نفسه مرة أخرى، أو يخرج على الناس معلنًا تنازله عن السلطة، وظل على جموده وصمته إلى أن ركب الطائرة فارًا بعائلته إلى موسكو!
هذه السهولة المفرطة فى الانهيار تطرح سؤالاً ساذجًا: إذا كان نظام الأسد مخوخًا إلى حد العفن، وجيشه أجوفَ إلى حد الخواء؛ فكيف دامت هذه الحرب الأهلية 14 عامًا، قُتل فيها ما يقرب من 700 ألف سورى، وتشرد أكثر من عشرة ملايين فى أربعة أرجاء المعمورة؟
بالطبع أى تفسير متعجّل لهذا «الاستسلام» الواهن لـ«دولة» أمام الفصائل المعارضة والميليشيات المسلحة؛ قد لا يكون دقيقًا، فالأوراق المخفية أكثر من الأوراق المكشوفة عن اقتصاد مدمر، ونزوح بَشرى، وسوء أحوال معيشية، وظروف بائسة معقدة وإحباط عام، وروح معنوية فى الحضيض تمثلت فى هروب آلاف الجنود من الجيش فى السنوات الخمس الأخيرة..
المدهش أن كل هذه العناصر السلبية الهائلة كانت موجودة وممتدة منذ سنوات، فقط أضيف إليها عنصر جديد هو «غياب» حزب الله اللبنانى عن المشهد السورى، بعد انكفائه فى حرب شرسة ضد العدو الإسرائيلى فى جنوب لبنان، والتى خسر فيها المئات من قياداته والكثير من مواقعه، ويبدو أن حزب الله كان هو الدرع التى كان بشار الأسد يحتمى بها، وليس الحرس الثورى الإيرانى،
وحين تركته الدرع وعاد إلى وطنه الأم، رأت هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة الأخرى أن الفرصة باتت سانحة للانقضاض على نظام الأسد المعتل فاقد أسباب الحياة، فتفاهمت بالرغم من كل تناقضاتها وتجاهلت خلافاتها الأيديولوجية مؤقتًا، وانقضت عليه منهيةً خمسين سنة من أسوأ العصور فى تاريخ سوريا الحديث.
هل كان المطلوب أولاً تخريب سوريا وإعادتها مئة سنة إلى الوراء قبل أى تغيير فيها؟، الوقائع تؤكد ذلك؛ فقبل أن تمر بضع ساعات على دخول الميليشيات المسلحة إلى دمشق رافعة علامات النصر، كانت إسرائيل قد بدأت فى القضاء المبرم على قوة سوريا العسكرية، اقتحمت المنطقة العازلة فى هضبة الجولان السورية واستولت عليها، حتى صارت قواتها على حدود دمشق، تقريبًا على مسافة 35 كليومترًا، ودمرت الصواريخ الإسرائيلية كل وحدات البحرية، وأغارات طائراتها بكثافة وعنف غير مسبوقين على مطاراتها العسكرية وأبادتها بكامل طائراتها، وضربت مخازن الأسلحة والذخيرة.. باختصار باتت سوريا تحت سيطرة أحمد الشرع الشهير بـ«أبو محمد الجولانى» وميليشياته وفصائله المسلحة مثل أرملة عاجزة عارية مستباحة!
وأتصور أن أى تحليلات عن موقف روسيا من الانهيار أو كيف تصرفت إيران هو نوع من الثرثرة الفارغة، فالقوة الأكثر فاعلية على الأرض كانت (الولايات المتحدة وإسرائيل) وتركيا، الولايات المتحدة تنفذ مشروع المحافظين الجُدُد، فى تفتيت المنطقة العربية إلى كنتونات وصراعات طائفية، وتركيا تحاول كبت الرغبة الكردية فى منطقة حكم ذاتى فى سوريا على غرار كردستان العراق، أو دولة مستقلة، حتى لا تتمدد هذه الرغبة إلى أكراد تركيا وتتحول إلى عمل، ناهيك عن بعض المطامع الخفية فى الجزء الملاصق لـ«لواء الإسكندرونة».
لم تفكر هذه الفصائل والميليشيات المنتصرة فى الدفاع عن سوريا ولو بالكلمات؛ وإنما تفكر وتخطط وتستعجل تصفية الحسابات مع النظام السابق، وتجهز قائمة أولية، بأسماء من ستطاردهم فى الأيام المقبلة؛ انتقامًا لما فعلوه بالشعب السورى، وقد نشر أحمد الشرع الشهير بـ«أبو محمد الجولانى» بيانًا على شبكات التواصل الاجتماعى يتعهد فيه بمكافآت لمن يدلى بمعلومات عن كبار ضباط الجيش والأمن المتورطين فى جرائم حرب..
المدهش أن «الجولانى» نفسه متهم فى جرائم حرب حين كان عضوًا فى تنظيم القاعدة ثم داعش، وكانت مكافأة الولايات المتحدة لمن يُبَلغ عنه عشرة ملايين دولار، ولا تزال المكأفاة سارية، ولم تلغها واشنطن حتى الآن، لكنها لم تعد تهتم بالقبض عليه وهى تراه أمامها رائحًا غاديًا؛ بل تستضيفه فضائياتها وتحاوره عن مستقبله ومستقبل سوريا الممزقة!
وتصريحات «الجولانى» بالثأر والمحاسبة جاءت عكس رسائله الودودة التى بَشّر بها، مع بدء عملياته العسكرية فى 27 نوفمبر الماضى، واستيلاء الميليشيات على حلب؛ بأن سوريا مقبلة على عهد جديد آمن للجميع.
وبدلاً من أن تعمل الفصائل المعارضة المنتصرة على «لَمّ شمل» كل السوريين، على غرار ما فعله نيلسون مانديلا، فى جنوب إفريقيا، بإغلاق الملفات القديمة بكل ما فيها من أوجاع ودماء وطائفية، وفتح صفحة خالية من تصفية الحسابات والثارات والجروح المنكوءة، يبدو أنها ستمضى فى الطريق التقليدى لأى ميليشيات عسكرية، طريق السلطة أهم من الوطن، فتدفع به إلى المجهول، وتغرقه فى بحر الظلمات، وبالطبع تصفية إسرائيل لقدرات سوريا العسكرية برًا وبحرًا وجوًا تحت رعاية هذه الميليشيات وصمتها المريب هو أول قفزة فى بحر الظلمات!
يبدو أن هؤلاء المعارضين لم يفرّقوا بين سوريا الوطن، وسوريا نظام الأسد، ولم يدركوا أن الوطن يظل وطنًًا مَهما كانت المظالم فيه، ولا يمكن قبول الاستعانة بأعدائه للتخلص من حكم فاسد وطغيان مستعر، فالعدو سرطان أكثر شراسة، لا يتوقف إلا بموت الوطن!
والسؤال المُلح الآن: كيف تتوزع «غنائم» سوريا على فصائل المعارضة والميليشيات المسلحة؟، وما هو المقابل الذى سيتقاضاه يرضى رعاة هذه الفصائل والميليشيات؟
عمومًا؛ تواجه سفينة سوريا أربعة تحديات كبرى..
الأول: السلطة.. مَن سيمسك بها؟، وكيف يصل إليها؟، وكيف يضمن عدم وجود جماعات مسلحة قادرة على تحدى حكمه؟، والأخطر: كيف سيجرى تقاسم السلطة بين ائتلاف الفصائل والميليشيات؟، وماذا عن المعارضين الذين لم يكونوا جزءًا من المعارضة المسلحة؟، الأرجح أن أحمد الشرع (الجولانى)، سيصبح رئيس سوريا الجديدة؟، فهل سيحتفظ بلقب الجولانى أم ينزعه بعد أن استولت إسرائيل على بقية الجولان؟!
الثانى: ماذا ستفعل السلطة الجديدة مع الحكم الذاتى فى المنطقة الكردية ووحدات حماية الشعب الكردى فيها؛ خصوصًا أن بعض فصائل المعارضة ترفض الحكم الذاتى؟، وفى حالة الخلاف كيف تحصل الحكومة الجديدة على اعتراف دولى؛ وبخاصة من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة؟
الثالث: ما هو النظام السياسى الذى سوف تؤسِّسه المعارضة وهى تيارات مختلفة، بين الرؤية المنادية بالشريعة الإسلامية دستورًا للبلاد والتى يمثلها هيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية وبين الرؤى الليبيرالية والديمقراطية التى يمثلها الجيش الوطنى السورى الذى انشق عن جيش الأسد بعد انتفاضة 2011؟ وفى حالة تشكيل حكومة محافظة دينيًا ما هى القوانين التى ستشكل الاقتصاد والسياسة الخارجية؟
الرابع: إعادة بناء البلاد بعد التخريب الشديد الذى لحق بها.. فالأحوال الاقتصادية المتردية لا يمكن أن تصنع استقرارًا، وإذا دامت قد تندلع قلاقل واضطرابات تعيد شبح الحرب الأهلية مجددًا.
بالطبع لن تستطيع السلطة الجديدة بناء الجيش السورى مجددًا، فالعراق الذى فقد جيشه قبل عشرين عامًا لم يستطع استرداده حتى الآن، وأيضًا لا يمكنها حماية سوريا من أى أطماع إسرائيلية جديدة؟، وسوريا فعليًا مقسّمة على الأرض بين إسرائيل وتركيا والأكراد!
باختصار؛ تبدو الأوضاع صعبة ومعقدة والتداعيات خطيرة، وتنذر بصراع وعدم استقرار قد يستمر زمنًا غير قصير، وقطعًا لها تأثيرات على الدول العربية المجاورة؛ وبخاصة فى العراق ولبنان، وستفرض عليهما مخاطر أمنية كبيرة؛ بسبب هشاشة أوضاعهما السياسية والاقتصادية.
باختصار؛ إن نهاية حكم عائلة الأسد، الذى كان وبالاً على سوريا يمكن أن يكون فرصة، ويمكن أن يكون رحلة إلى المجهول، فرصة لإعادة بناء أمة عظيمة تستنهض نفسها من براثن أوضاع دولية وإقليمية شديدة الخطورة، فرصة يلزمها رؤية تعلو بـ«مصالح» الوطن سوريا فوق أى طموحات شخصية، وقادرة على تجاوز «حسابات الماضى» بكل ماجرى فيه؛ لتلم الشمل وتعزز التلاحم بين المجموعات المتنوعة وتشكل هياكل حكومية تعكس التنوع العرقى والدينى والسياسى فى سوريا، وهى مهمة صعبة جدًا؛ لكنها ليست مستحيلة.
وإذا حدث العكس؛ فسوريا سوف تمضى فى رحلتها إلى المجهول؛ خصوصًا أن العرب يتفرجون كأن الشام ليس عمودًا محوريًا فى أمنهم القومى!
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة متر مربع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من متر مربع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.