في الوقت الذي تتسابق فيه كبرى شركات التقنية لبناء مراكز بيانات ضخمة لتغذية طموحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي، تتخذ آبل مسارًا أكثر تحفظًا وواقعية. وبدلًا من شراء كميات ضخمة من رقاقات الذكاء الاصطناعي مثل منافسيها، تفضّل الشركة الاعتماد على مزيج من قدراتها الخاصة واستئجار القدرة الحاسوبية من شركاء خارجيين، وفق ما أوضح المدير المالي للشركة كيفان باريك خلال إعلان النتائج المالية الأخير للشركة. وعندما تبني آبل خوادمها الخاصة لتشغيل برمجيات الذكاء الاصطناعي، فإنها تستخدم رقاقاتها الخاصة – وليس رقاقات إنفيديا أو AMD – لتشغيل ما تسميه “خدمة الحوسبة السحابية الخاصة” (Private Cloud Compute). وتُعد Private Cloud Compute بنية سحابية طوّرتها آبل لدعم قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة ضمن نظام Apple Intelligence، إذ تُعالَج البيانات الحساسة التي يصعب معالجتها في أجهزتها عبر خوادم خاصة صُممت بمعايير صارمة للخصوصية، دون تخزين دائم للمعلومات أو تعريضها لمخاطر خارجية. إنفاق متواضع مقارنةً بالمنافسين تزامن إعلان نتائج آبل المالية مع أسبوع مزدحم بإعلانات النتائج المالية من شركات مثل جوجل ومايكروسوفت وميتا وأمازون، إذ أعلنت جميعها خططًا لزيادة إنفاقها بنحو ضخم لتأمين القدرة الحاسوبية اللازمة لتطوير الجيل القادم من تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتوقعت جوجل إنفاق نحو 92 مليار دولار بحلول نهاية العام، في حين أنفقت مايكروسوفت نحو 34.9 مليار دولار في الربع المنتهي في سبتمبر. وأما ميتا، فقد تراجعت أسهمها بعد إعلان مارك زوكربيرج نية الشركة إنفاق نحو 71 مليار دولار بحلول نهاية عام 2025، في حين رفعت أمازون تقديرات الإنفاق إلى 125 مليار دولار. وأما آبل، فبدت متحفظة مقارنةً بكل ذلك. إذ بلغ إنفاقها في العام المالي 2025 نحو 12.72 مليار دولار فقط، بزيادة قدرها 35% عن العام السابق. ومع ذلك، فإن تلك الأرقام تعكس تسارعًا في وتيرة الاستثمار. الاستثمار في “الحوسبة السحابية الخاصة” أوضحت آبل أن جزءًا كبيرًا من الإنفاق في 2025 خُصّص لبناء بيئة “Private Cloud Compute” داخل مراكز بياناتها. وكانت آبل قد أعلنت في وقت سابق من الشهر الجاري بدء شحن خوادمها الجديدة من مصنعها في مدينة هيوستن الأمريكية. ويأتي هذا التوسع بعد إطلاق الشركة العام الماضي حزمة “Apple Intelligence”، وهي مجموعة أدوات ذكاء اصطناعي تعمل على رقاقات آبل الخاصة، وتتيح تلخيص الإشعارات، وإنشاء الصور والرموز التعبيرية الجديدة، وتمرير الاستفسارات المعقدة إلى ChatGPT من OpenAI. ومع التقييمات المتباينة التي حصدتها هذه الحزمة، تؤكد آبل استمرار تطويرها، مشيرةً إلى أن النسخة المحسّنة من “سيري” – التي تأخّر إطلاقها حتى عام 2026 – ما زالت على المسار الصحيح للطرح في العام المقبل مع الانفتاح على التعاون مع شركاء آخرين. مبيعات قوية وثقة بالمستقبل يرى بعض المحللين أن نهج آبل الهادئ قد يعرّض مبيعات أجهزتها للخطر، لكن لم تظهر مؤشرات ذلك بعدُ. فقد أكد الرئيس التنفيذي للشركة تيم كوك أن الإقبال على هواتف آيفون 17 الجديدة كان “قياسيًا”، مشيرًا إلى توقعات بارتفاع المبيعات بنسبة تتراوح بين 10% و 12% في الربع المالي المنتهي في ديسمبر. وأكد كوك أن مزايا الذكاء الاصطناعي مثل “Apple Intelligence” أصبحت عاملاً مؤثرًا متزايدًا في قرارات الشراء، مضيفًا أن آبل متفائلة من ازدياد أهمية هذا العامل في المستقبل. تحدّيات داخلية لا يجب إغفالها من الجدير بالذكر أن آبل دخلت مجال الذكاء الاصطناعي متأخرة عبر حزمة “Apple Intelligence”، ويرى مراقبون أن تقدّمها المحدود في هذا المجال شكّل أحد الأسباب الرئيسية وراء ابتعادها عن السباق المحموم الذي تخوضه شركات مثل جوجل ومايكروسوفت وأمازون. وبينما تستثمر تلك الشركات عشرات المليارات في بناء مراكز بيانات عملاقة وتطوير نماذج لغوية متقدمة، تواجه آبل صعوبات في مواكبة هذا الإيقاع المتسارع. وكان تأجيل إطلاق النسخة المطوّرة من المساعد الصوتي “سيري” إلى عام 2026 من أبرز المؤشرات على بطء التطوير الداخلي وضعف جاهزية تقنيات الشركة لمجاراة المنافسين. وواجهت آبل نقصًا في الكفاءات البحثية المتخصصة بعد انتقال عدد من خبراء الذكاء الاصطناعي إلى شركات أخرى، مما أثّر في قدرتها على بناء نماذج مستقلة تضاهي ما وصلت إليه OpenAI أو Google DeepMind. هذا بالإضافة إلى التحفّظ الشديد في مشاركة البيانات لحماية خصوصية المستخدمين، وهو ما يقيّد الشركة في تدريب نماذجها مقارنةً بالمنافسين الذين يمتلكون حرية أوسع في التعامل مع البيانات الضخمة. كل ذلك جعل آبل تتبنّى نهجًا أكثر حذرًا، يركّز على التكامل التدريجي بين الذكاء الاصطناعي ومنتجاتها بدلًا من الدخول في سباق استعراضي، وهو مسار كان من فوائده أيضًا احتفاظها بكامل قوتها البشرية العاملة، دون الاضطرار إلى إجراء عمليات تسريح ضخمة توفيرًا للنفقات على غرار ما فعلته الشركات الكُبرى الأخرى. وبدلاً من ضخ استثمارات ضخمة دون نتائج مضمونة، اختارت الشركة أن “تنأى بنفسها” عن فوضى السباق وتستثمر وفق إيقاعها الخاص، في محاولة للحفاظ على توازنها بين الابتكار والحذر المالي والتقني، خاصةً في ظل امتلاكها نموذج أعمال ناجح قائم على مبيعات الأجهزة والخدمات، وهو نموذج يثبت باستمرار نجاحه في ظل وجود قاعدة عملاء مُخلصة لمنتجات الشركة. نسخ الرابط تم نسخ الرابط