الحياة تمضي بسرعة، والرحيل عنها أسرع مما نظن، ومسيرتنا فيها ليست مجرد بطاقة تعريف أو روتين يومي، بل هي مساحة حقيقية يُصنع فيها التاريخ الشخصي للإنسان، هناك من يغادر وظيفته ويُطوى اسمه كما تُطوى الأوراق.
هناك من يُغادر ويظل اسمه يُذكر بين زملائه ومرؤوسيه بكل خير، بل وحتى في مجالس لا يعرفها، السمعة الحسنة لا تنتهي بانتهاء الخدمة، ولا تُمحى بخروج الاسم من كشوف الرواتب، فهي تسكن القلوب وتُروى في المجالس، وتبقى محفورة في ذاكرة المكان، فموظف عاش بأخلاقه وعمل بإخلاص وتعامل بتواضع يترك وراءه أثرًا لا يُنسى، وهذا الأثر لا يظل حبيس أسوار العمل، بل يسير أمام أبنائه في الطرقات، ويصل إلى آذانهم من أفواه الآخرين.
تخيّل ابنك يسمع من أحدهم: «أبوك كان قدوة، إنسان نزيه، نحترمه وندعو له دائمًا» عندها لا يحتاج هذا الابن إلى كثير من الكلام، فقلبه سيفيض فخرًا واعتزازًا، لأنه لم يرث مالًا فقط بل ورث سمعة حسنة تُضرب بها الأمثال، فإن تُورّث لأبناءك بيتًا جميلًا أو مالًا وفيرًا فهذا أمر طيب، لكن أن تورّثهم احترام الناس، فهو الفخر بعينه، أن تمضي وتبقى كلمات الخير تتردد عنك، تلك أعظم شهادة تُمنح دون أن تطلب، وفي زحمة الحياة، قد يغفل البعض عن هذا المفهوم، لكن من يعمل بضمير ويخاف الله في سلوكه، يدرك أن كل موقف يسجله الآخرون وكل كلمة يقولها، تشكل جزءًا من سيرته التي ستُروى لاحقًا.
تلك السيرة لا تُكتب في ملف وظيفي، بل تُروى من جيل إلى جيل، وتُقال في المجالس، وتحملها ألسنة الناس دون تزوير أو تجميل، فالسمعة الطيبة لا تُبنى في يوم، ولا تُصنع بكلام، بل تُبنى بالثبات على القيم، والاستقامة في المواقف، والإحسان في الخُلق، والاستمرار في احترام النفس والناس حتى في أصعب الظروف، وكما أن البيوت تحتاج صيانة دائمة، فإن السمعة تحتاج إلى متابعة ورعاية، فهي تحتاج إلى مراجعة للذات ومحاسبة للنفس، وحرص دائم على نقاء الصورة، لأن الزمن قد يغفر الخطأ لكنه لا يُنسي الأثر ولا يغفر لمن فرّط بثقة الناس، وترويض النفس ليس بالأمر الهيّن، بل هي معركة داخلية يخوضها الإنسان مع رغباته وانفعالاته، ليُعلّي من قيمة الروح على الجسد، ومن سلطان العقل على الهوى، وفي نهاية الأمر لا يُقاس الإنسان بما جمع بل بما ترك من أثر.
أجمل ما يمكن أن يخلّفه بعده ليس مالًا ولا جاهًا، بل إرثًا من الكلمات الطيبة والسير العطرة، التي تسبق اسمه في المجالس، وتظل عنوانًا له مدى الحياة وما بعدها، فالإرث الحقيقي ليس ما نجمعه في الخزائن بل ما نزرعه في القلوب، فأن تُذكر بالخير بعد موتك، هو أن تعيش مرتان مرة بجسدك، ومرة بذكراك.
[email protected]
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.