من شدة انشغال العالم وتحديداً صناع السينما العالمية بالخيال العلمي، والتقنيات الحديثة وعالم الإلكترونيات... أصبح وجود فيلم مبني على الخيال فقط، وعلى قصة عمادها المشاعر الإنسانية، نادراً بل وكأنه عمل يأتي في غير موعده، هكذا يبدو فيلم «أ بيج بولد بيوتيفل جورني» أي «رحلة كبيرة جريئة وجميلة» المعروض حالياً في الصالات، يذكرنا ببطليه وإيقاعه وأجوائه الرومانسية والمطر والغناء واللوحات الاستعراضية.. بالفيلم الرائع «لا لا لاند»، مع فوارق جعلت الفيلم الحالي أقل إبهاراً من الآخر رغم المجهود الواضح الذي بذله المخرج في تنويع أماكن التصوير والقفزات التي أحدثها الكاتب في زمن الأحداث بين الماضي والحاضر وبراعة البطلين في الأداء.
عشاق الأفلام الرومانسية ومحبو أجواء أفلام زمان القائمة على قصص الحب والعراقيل واللقاء والفراق.. يستمتعون بفيلم «رحلة كبيرة جريئة وجميلة»، والاسم هذا رغم غرابته وطوله، إلا أنه شديد التعبير عن مضمون الفيلم، وكيف استطاعت رحلة يوم واحد مملوءة بالمغامرات والجرأة والجمال تغيير طريقة تفكير البطلين، وغيرت حياتهما ونظرة كل منهما لنفسه وللمحيطين به وللمستقبل. الفيلم فلسفي أيضاً وليس مجرد قصة رومانسية خفيفة، يأخذ من الخيال وسيلة للتعبير عن عمق النفس البشرية، يترجم السؤال الذي يدور في بال كل إنسان حول «ماذا يفعل لو عاد به الزمن إلى الوراء وماذا كان سيغيّر من أخطاء ارتكبها أو مواقف أساء فهمها وحقائق غابت عنه؟»، يترجمه إلى فعل ومواقف ملموسة تقلب حياة البطلين في يوم واحد، وهي وإن بدت مستحيلة وغير واقعية في تفاصيلها إلا أنها تحمل المعاني العميقة التي نفهم منها المغزى من القصة وإلى أين يريد أن يأخذنا الكاتب سيث رايس ولماذا يلفت انتباهنا إلى التعمق في التفكير في مجريات حياتنا والتحرك بالاتجاه الصحيح قبل فوات الأوان.
ينطلق المخرج كوجونادا بالفيلم من باب منزل الشاب الأربعيني دايفيد (كولن فاريل)، الذي يتحدث عبر الهاتف مع والديه ونفهم مباشرة أنه يحب العزلة وقد اختار أن يعيش وحيداً، في طريقه لأخذ سيارته يجد أن الشرطة احتجزتها بسبب ترك سيارته في مكان ممنوع الوقوف فيه، على بعد خطوتين يجد إعلاناً لوكالة تأجير السيارات، فيذهب مباشرة حتى يتمكن من اللحاق بالعرس المدعو إليه، لكنه يفاجأ بوجود الوكالة في مكان غريب أشبه بصالة كبيرة يجلس في آخرها رجل وامرأة وأمامهما طاولة، كأنهما لجنة تحكيم أو اختبار، وسيارة قديمة وحيدة في المكان، يقترب دايفيد فيطرحان عليه مجموعة أسئلة ويقومان بتصوير المقابلة بكاميرا فيديو صغيرة، يستغرب الشاب كل تلك الأجواء والأسئلة ويسألهما إن كان هذا اختباراً للتمثيل، فهو لا يحب التمثيل، نشعر معه بالارتياب في أمر الشخصين غريبي الأطوار، ثم يعرضان عليه تلك السيارة الموجودة ذات الطراز القديم، والأغرب أنه لن يستطيع استخدام جهاز ال«جي بي إس» فيها، ولا مكان فيها لوصلة للهاتف، يوافق على الشروط ويركب السيارة لتبدأ رحلة المفاجآت والاكتشافات، والأشبه برحلة البحث عن الذات ومواجهة الحقائق التي يهرب منها الإنسان.
مشهد لوحة فنية
كثيرة المفاجآت، أولها وجود جهاز تتبع السيارة يقوم بشكل تلقائي بإرشاد دايفيد إلى الطريق، يصل إلى مكان الفرح الذي يتم عقده في باحة خارجية وتحت المطر الغزير. هنا لا بد من التوقف عند هذا المشهد الرائع الذي جعله المخرج لوحة فنية، المطر وألوان الشماسي وأشكالها وكأنها ديكور طبيعي يزين المكان. تصل بعد دايفيد سيدة جميلة جداً، وبعد انتهاء مراسم الزواج وعند الانتقال إلى الحفل الراقص، يقوم العروسان بتقديم دايفيد لتلك الحسناء سارة (مارغوت روبي)، إعجاب من النظرة الأولى، لكن دايفيد ينحاز لعزلته رغم شدة رغبته في الرقص مع سارة التي تتهور وتندفع بجرأة غريبة فتسأل دايفيد إن كان يوافق على الزواج بها؟! يمشي كل منهما في طريقه، سارة هي أيضاً استأجرت سيارة من نفس الوكالة، صدفة غريبة!.
دايفيد يقول إن والده أيرلندي ووالدته أمريكية، لذلك تبدو لكنته غريبة كما وصفتها سارة، يسأله «جي بي إس» السيارة (يعمل تلقائياً وبشكل لا يشبه ما نعرفه من تلك الوسائل الحديثة) «هل تود القيام برحلة كبيرة جريئة وجميلة»؟ ويعيد طرح السؤال أكثر من مرة حتى يوافق، فينزل المخرج على الشاشة بعنوان الفيلم، وكأن الجمهور ساذج لن يستطيع ربط الكلام بعنوان الفيلم وتفاصيل الأحداث، تتعطل سيارة سارة، هل هي صدفة؟ تخبر السيارة سائقها دايفيد بضرورة اصطحاب سارة معه، هنا تصبح الرحلة ثنائية، وتمتد حتى قرب نهاية الفيلم.
رحلة جريئة
يقول عنوان الفيلم أنها رحلة جريئة، فالجرأة هنا مستمدة من قدرة البطلين على مواجهة ماضيهما وحقيقة واقعهما، والجرأة في اتخاذ القرارات وإرادة تغيير أو تصحيح بعض الأخطاء.. السيارة تأخذ دايفيد وسارة في طريق ويقول لهما صوت ال «جي بي إس» كيفية التوجه وعند الوصول إلى محطات يجب التوقف عندها، يترجل البطلان وسط غابة فيكتشفان باباً واقفاً بلا أعمدة ولا حوائط، باب في الهواء، وسط الأشجار، يفتحاه ويدخلان فإذا بهما داخل غرفة، إنها منارة في كندا من القرن التاسع عشر، اعتاد دايفيد المجيء إليها والبقاء فيها لوحده، لقد اعتاد السفر وحيداً وسارة كذلك، هل هي مفاجأة؟ يكملان الرحلة وفي المحطة الثانية باب آخر يدخلان منه إلى متحف فني، المكان الذي شهد زيارات كثيرة لسارة ووالدتها التي توفيت مبكراً، وكانت تعشق الرسم والفنون وكانت سارة تعشق والدتها.
الباب الثالث
ذكريات مؤلمة وجراح تنزف، سألها دايفيد لماذا مازالت عزباء، وقد بلغت الأربعين، تجيبه «لأنني خائنة، حتى لو كان صديقي مثالياً سأخونه».. هذه العبارة لا نفهم معناها الحقيقي وأسبابها إلا قرب نهاية الفيلم. في الباب الثالث نكتشف سبب هروب دايفيد من الحب والزواج، فخلال المرحلة الثانوية شارك في عرض مسرحي، لكنه تلقى صدمة كبيرة حين اعترف في الكواليس لزميلته بأنه يحبها فصدته وأخبرته بأنه لا يعني لها شيئاً، هنا يعود المشهد ونرى دايفيد وسط زملائه، هم يرونه بشكله السابق حين كان صغيراً، بينما نحن نراه كما هو حالياً الرجل الأربعيني، مشهد يغذي به المخرج خيال الجمهور، بجعله يرسم صورة لبعض الأحداث ويراها وكأنها حصلت سابقاً ويتخيل شكل البطل والبطلة في أعمار مختلفة.
المخرج كوجونادا وكاتب السيناريو سيث رايس تنقلا بين الماضي والحاضر وعبَرا السنين بخفّة، بلا تعقيدات وبلا إرباك للمشاهدين، ورغم سذاجة فكرة وجود أبواب في الغابة وفي أماكن مختلفة، إلا أنها حيلة ذكية ترمز إلى عبور الإنسان من مكان وزمان إلى مكان وزمان آخرين، يفهمان تدريجياً الحقائق، يستوعبان أخطاءهما وأخطاء الآخرين، لكنهما أيضاً يتعلمان كيفية التصرف وإدارة حياتهما، في تلك المرحلة يستوقفنا أكثر مشهدين إنسانية، مشهد رؤية سارة لوالدتها بعد وفاتها، وفي مرحلة أخرى لقائها وهي حية، ما يتيح لسارة استغلال الوقت لتعبّر عن حبها لوالدتها وتبقى بجانبها في لحظاتها الأخيرة، وهو ما لم تفعله في الواقع وشعرت بندم كبير، ومشهد رؤية دايفيد لوالده في المستشفى يوم ولادة دايفيد، عرف ما لم يكن يعلم به، أنه ولد بصعوبة وعانى من مشكلة في القلب، ووالده كان متوتراً خائفاً من فقدانه، حدّثه عن مدى سعادته وزوجته بهذا المولود الآتي بعد سنوات من الانتظار وعدم الإنجاب، تضحية وحب وقلق ومشاعر نبيلة كثيرة جعلت دايفيد يعيد النظر بهروبه من والديه وباختياره العزلة.
الفيلم يقدم فلسفة الحياة والرومانسية، وفلسفة الحب والتفاهم والتوازن النفسي، بقالب غير مباشر وغير تقليدي، روبي وفاريل ثنائي رائع في عمل اعتمد بشكل كبير على أدائهما.
إجادة التوظيف
مشاهد كثيرة جميلة ومؤثرة، لوحات استعراضية وكادرات فنية عالية، كل مشاهد المطر رائعة يجيد المخرج توظيفها كجزء من الحوار ومن التعبير عن المشاعر، غناء فاريل في المشهد المسرحي جميل جداً إذا كان هذا صوته فعلاً فسينجح بلا شك في الأفلام الغنائية أو الاستعراضية.. نهاية نصل إليها بعد مراحل كثيرة من الحزن والفرح، تعكس معنى وأهمية التصالح مع الذات ومع الماضي وجرأة مواجهة الألم ومواجهة نقاط الضعف والاعتراف بها.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.