في أوائل التسعينيات، كان "جون هاريس" -رجل أعمال بريطاني من مانشستر- يُحلّق أسبوعيًا إلى عدة وجهات لحضور اجتماعات شركته الأوروبية.
وكان يحمل بطاقة ولاء أنيقة من الخطوط الجوية البريطانية، ويعرف تمامًا أن رحلتين إضافيتين فقط ستمنحانه مقعدًا مريحًا في الدرجة التنفيذية دون عناء حيث لم تكن هناك تطبيقات ولا جداول نقاط معقدة، فقط علاقة واضحة بين عدد الرحلات والمكافآت.
اليوم، وبعد ثلاثة عقود، تغيّرت قواعد اللعبة إذ أصبح هاريس مستشارًا شبه متقاعد، يحاول أن يستبدل أمياله المتراكمة برحلة ترفيهية إلى برشلونة، لكن عليه دفع رسوم إضافية، أو الاختيار من بين تواريخ محدودة، وتجاوز متاهة من الشروط الديناميكية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وتجربة هاريس ليست استثناءً، بل تمثل شريحة واسعة من المسافرين الذين يشعرون بأنهم غرباء في أنظمة ولاء كانت صُممت لأجلهم.
ولطالما كانت برامج الولاء الخاصة بشركات الطيران ركيزة أساسية في استراتيجيات الحفاظ على العملاء، وقد تطورت بشكل كبير منذ إطلاقها في أوائل الثمانينيات.
وبرامج الولاء هي أنظمة تسويقية تهدف إلى مكافأة العملاء مقابل تكرار تعاملهم مع شركة معينة، وتقوم على منح نقاط أو أميال يمكن استبدالها لاحقًا بمكافآت مثل رحلات مجانية، ترقيات للمقاعد، أو مزايا إضافية.
لكن مع مرور الوقت، تحولت هذه البرامج إلى أنظمة معقدة تضم شراكات مع شركات بطاقات الائتمان، وبيع النقاط لشركاء تجاريين، وآليات دقيقة لاستبدال المكافآت.
وبالنسبة لهاريس وغيره من المسافرين، لم تعد تجربة برامج الولاء تحمل الشعور القديم بالتميّز، بل تحوّلت إلى معادلة تجارية تحكمها الخوارزميات، مما يطرح تساؤلًا مهمًا: هل لا تزال هذه البرامج مجدية ؟
نشأة برامج الولاء وتحولها لمصدر اقتصادي
تعود جذور برامج ولاء شركات الطيران الحديثة إلى عام 1979 حينما أطلقت شركة "تكساس إنترناشيونال إيرلاينز"، نظامًا بسيطًا يكافئ المسافرين استنادًا إلى عدد الأميال المقطوعة.
ورغم أن هذا البرنامج لم يستمر طويلاً، إلا أنه مهّد الطريق لبرامج الولاء الحديثة، ففي مايو عام 1981، أطلقت شركة أمريكان إيرلاينز برنامج "أدفانتج" الذي يُعتبر أول برنامج ولاء واسع النطاق في العالم، ليصبح نموذجًا يحتذى به في قطاع السفر الجوي.
كان هدف البرنامج هو مكافأة المسافرين المتكررين من خلال منحهم أميالًا يمكن استبدالها لاحقًا برحلات مجانية أو ترقيات، حيث جذب أكثر من 250 ألف عضو خلال عامه الأول، ما دفع شركات طيران منافسة مثل "يونايتد" و"دلتا" لإطلاق برامج مشابهة خلال العام نفسه.
وكان ذلك إيذانًا ببدء سباق واسع بين شركات الطيران لإنشاء شبكات ولاء قوية لربط العملاء بعلامة واحدة مقابل مزايا ملموسة، وقبل هذا التحوّل، كانت المكافآت التي تقدمها شركات الطيران تُمنح بشكل غير منتظم، وغالبًا اقتصرت على عروض خاصة أو قسائم شراء.
بعد ذلك تحوّلت برامج الولاء من أدوات لتعزيز ولاء المسافرين إلى مصادر دخل حيوية ومستقرة للعديد من شركات الطيران حول العالم.
ففي الولايات المتحدة، أعلنت أمريكان إيرلاينز في عام 2019 أن برنامجها أدفانتج حقق أكثر من مليار دولار من بيع الأميال لشركاء مثل البنوك وتجار التجزئة.
أما شركة دلتا، فأشارت إلى أن برنامجها "سكاي مايلز" حقق أكثر من 6.1 مليار دولار، معظمها من شراكتها مع أمريكان إكسبريس.
ولا يقتصر هذا النموذج على أمريكا الشمالية فقط؛ ففي أوروبا، تعتمد الخطوط الجوية البريطانية على برنامج "إكزكيوتيف كلوب" الذي يتيح جمع نقاط "آفيوس" واستبدالها بعدد من المزايا، سواء على الرحلات الجوية أو في الفنادق وتأجير السيارات.
وتُعد شركة آي إيه جي لويالتي، التي تدير نظام "آفيوس"، من أهم الجهات التي تولد أرباحًا من بيع النقاط لشركاء تجاريين مثل "باركلي كارد" و"هيلتون".
أما في آسيا، فتدير الخطوط الجوية السنغافورية برنامج "كريس فلاير" الذي توسّع ليشمل أكثر من 200 شريك من الفنادق والمطاعم وشركات الخدمات المالية.
وفي تقرير صدر عام 2023، أشار مسؤولو الشركة إلى أن إيرادات البرنامج أصبحت من بين الأسرع نموًا بعد الجائحة.
وتعمل معظم هذه البرامج كوحدات مستقلة داخل شركات الطيران، حيث تبيع الأميال لشركات بطاقات الائتمان التي تقدمها كمكافآت للعملاء.
وتكمن ربحية هذا النموذج في الهوامش العالية الناتجة عن الأميال غير المستخدمة، أو تلك التي تُستبدل بمزايا منخفضة التكلفة.
وخلال جائحة كوفيد-19، استخدمت بعض شركات الطيران برامج الولاء كأصول مالية لضمان قروض ضخمة.
على سبيل المثال، استخدمت "يونايتد إيرلاينز" قيمة برنامج الولاء الخاص بها كضمان للحصول على قرض بنحو 6.5 مليار دولار، مما يعكس مدى اعتماد الشركات على هذه البرامج كأدوات تمويل قوية.
تحولات في سلوك وتوقعات المسافرين
رغم الربحية الكبيرة، تواجه برامج الولاء تحديات متزايدة، فالمسافرون اليوم -لا سيما من جيل الألفية والجيل زد- يفضلون المرونة والشفافية والتجارب الشخصية على الولاء الصارم لشركة واحدة.
وقد أظهر استطلاع أجرته شركة ديلويت عام 2023 أن 62% من المسافرين الشباب يفضلون نقاط بطاقات الائتمان القابلة للاستخدام عبر خدمات متعددة بدلًا من ربطها بشركة طيران واحدة.
فعلى سبيل المثال، يفضل كثير من المستخدمين بطاقات مثل تشيس سافاير بريفيرد أو أمريكان إكسبريس ميمبرشب ريووردز التي تسمح بتحويل النقاط إلى عدة شركاء سفر أو استبدالها مباشرة في حجوزات الفنادق والسيارات والتجارب السياحية.
علاوة على ذلك، فإن التضخم في أسعار المكافآت قد سبب إحباطًا لأعضاء البرامج منذ فترة طويلة، فاسترداد النقاط للحصول على مكافآت ذات مغزى بات يتطلب عددًا أكبر من الأميال، مما قلل من القيمة المتصورة.
وكان بإمكان أحد أعضاء برنامج دلتا سكاي مايلز حجز رحلة داخلية ذهابًا وإيابًا بـ 25 ألف ميل قبل بضع سنوات، بينما أصبحت الأميال اليوم تتجاوز 40 ألف ميل لنفس الوجهة والدرجة، دون تحسن فعلي في الخدمة.
كذلك، أعلنت يونايتد إيرلاينز عن نظام تسعير "ديناميكي" جديد زاد من تكلفة التذاكر المكافأة بشكل ملحوظ في أوقات الذروة، مما جعل العملاء يشعرون بأن مكافآتهم لم تعد مجزية كما في السابق.
وقد أدى هذا التحول إلى زيادة الانتقادات، حيث بدأ البعض بالتشكيك فيما إذا كانت هذه البرامج لا تزال تكافئ الولاء حقًا أم أنها فقط تشجع على الإنفاق عبر بطاقات الائتمان.
فبدلًا من بناء ولاء حقيقي للعلامة التجارية، أصبح التركيز منصبًا على تحفيز العملاء على استخدام البطاقات الائتمانية المرتبطة بالبرامج – وهو ما يخلق علاقة ربحية للبنوك وشركات الطيران، لكن على حساب رضا المستخدمين.
المنافسة والابتكار
ولمواجهة هذه التحولات، لجأت شركات الطيران إلى التحديث والابتكار حيث انتهجت شركات الطيران طرقًا جديدة لجعل برامج الولاء أكثر جذبًا للمسافرين.
على سبيل المثال، قدّمت "طيران الإمارات" تحديثًا لبرنامجها "سكاي واردز"، حيث أصبح يعتمد على مستويات مختلفة وتغيّر الأسعار حسب العرض والطلب، ما يعني أن قيمة الأميال قد تختلف وفقًا للوقت والموسم.
أما "جيت بلو"، فقد قدمت برنامج "ترو بلو" الذي يركّز على البساطة؛ فلا توجد تواريخ محظورة أو قيود زمنية على استبدال الأميال فيها، مما يجعل الأمور أكثر مرونة وسهولة للمسافرين.
كما بدأت بعض شركات الطيران أيضًا بتوسيع برامج الولاء لتشمل مجالات أخرى في السفر، مثل الفنادق وتأجير السيارات والأنشطة الترفيهية.
وساعد هذا الأمر على بناء منصات حديثة تمكن المسافرين من استخدام نقاطهم في أكثر من مجال وليس فقط الطيران.
وأحد الأمثلة على التحديثات هو شركة "دلتا"، التي أعادت تصميم برنامجها "سكاي مايلز ميداليون"، حيث قلّلت معايير الحصول على المكافآت، وأضافت فئات إنفاق جديدة لتحفيز المسافرين على الإنفاق بشكل أكبر.
من ناحية أخرى، تختبر شركات الطيران منخفضة التكلفة مثل "ريان إير" و"ساوث ويست" نماذج ولاء أبسط تركز على الراحة، مثل أنظمة نقاط أقل تعقيدًا أو مكافآت أسرع للحصول على مزايا دون الحاجة لتراكم أميال كثيرة أو قواعد معقدة.
مستقبل برامج الولاء
في المستقبل، من المتوقع أن يكون الذكاء الاصطناعي المحرك الرئيسي لتطوير برامج الولاء في شركات الطيران.
وستتمكن شركات الطيران من استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المسافرين بشكل مفصل وتقديم عروض مخصصة بناءً على سلوكيات السفر السابقة والأنماط التنبؤية.
على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتنبأ بأوقات ذروة السفر وتقديم مكافآت خاصة للمسافرين في أوقات معينة، مما يخلق تجربة سفر أكثر تخصيصًا وراحة للمسافر.
بالإضافة إلى ذلك، ستتيح هذه الأنظمة الذكية تخصيص الحوافز بناءً على تفضيلات كل عميل، مما يسهم في تحسين مستوى الرضا والولاء حيث ستشكل تطبيقات الهواتف المحمولة وسيلة أساسية لمتابعة الأميال والتمتع بالمكافآت بشكل فوري.
كما يمكن أن تسمح هذه التطبيقات بإتمام المعاملات عبر الهواتف الذكية مثل استبدال الأميال مباشرة أو تعديل التذاكر، مما يوفر مرونة أكبر ويسهل على العملاء التفاعل مع برامج الولاء بشكل أسرع وأبسط.
وتواجه برامج ولاء شركات الطيران حاليًا مرحلة تحول حاسمة رغم استمرار جدواها كمصدر دخل مهم للعديد من الشركات، فالتحديات الراهنة تتطلب منها التكيف والابتكار لتلبية توقعات المسافرين الجدد، خصوصًا من جيل الألفية والجيل زد.
وستظل البرامج التي توازن بين الربحية والولاء الحقيقي هي التي تحقق النجاح المستدام، لذا فإن التفاعل المرن والمتكامل مع المسافرين، والذي يتجاوز المفهوم التقليدي للأميال والمقاعد الثابتة، سيكون هو السبيل لبناء علاقات أقوى وأكثر قيمة مع العملاء.
المصادر: أرقام- دلتا- أمريكان إيرلاينز- ديلويت- سكيفت للأبحاث- فاينانشال تايمز- بريتش إيرلاينز- لوفتهانزا
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.