اقتصاد / صحيفة الخليج

تحوّل يهدد بانقسام صناعي

غافين ماغواير*

بينما تسعى الاقتصادات الكبرى إلى إعادة صياغة مزيجها من في مواجهة تحديات المناخ والأمن الاقتصادي، يبدو أن مسار التحوّل في القطاع سيقسم العالم الصناعي إلى معسكرين متباينين عبر الأطلسي. فشركات التصنيع في أمريكا الشمالية وأوروبا تتجه نحو مستقبلين مختلفين جذرياً، الأول يعتمد على الغاز الطبيعي كمصدر رئيسي للطاقة، والثاني يسعى إلى كهربة شبه كاملة للمصانع.
في أمريكا الشمالية، لا تزال الوفرة الجيولوجية تفرض منطقها، إذ تمتلك القارة مخزونات هائلة من الغاز الطبيعي تجعلها مكتفية ذاتياً بل ومصدّراً عالمياً رئيسياً له. هذه الثروة تضمن استمرار الغاز كمصدر الطاقة الأول للمصانع وخطوط الإنتاج لعقود مقبلة.
أما أوروبا، التي تفتقر إلى احتياطيات كافية وتعتمد تاريخياً على الواردات، فقد دفعتها صدمة الحرب في أوكرانيا إلى تسريع الانفصال عن الوقود الأحفوري المستورد. والنتيجة المتوقعة، تحول واسع نحو الكهرباء كمصدر الطاقة الأساسي للصناعة بحلول منتصف القرن.
لكن وراء هذه الخيارات المتباعدة تكمن رهانات اقتصادية واستراتيجية ضخمة. فطريقة توليد الطاقة قد تحدد مستقبلاً من يملك القدرة التنافسية الأعلى، ومن سيتراجع أمام ارتفاع التكاليف وتقلّب الأسواق.
وتوضح الأرقام حجم التباين. ففي عام 2024، شكّل الغاز الطبيعي 36% من إجمالي إمدادات الطاقة في أمريكا الشمالية، مقابل 24% في أوروبا، بحسب بيانات «معهد الطاقة». غير أن الفارق الحاسم يكمن في مصدر هذا الغاز، فالولايات المتحدة وكندا تهيمنان على إنتاجه عالمياً، بينما تضطر أوروبا لاستيراد أكثر من نصف احتياجاتها.
وهذه الحقيقة التي ظلت لعقود واقعاً اقتصادياً مقبولاً، تحولت إلى نقطة ضعف قاتلة عقب الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022. فقد تراجعت الإمدادات الروسية بشكل حاد، لترتفع الأسعار ويُعاد النظر جذرياً في منظومة الطاقة الأوروبية.
وكانت الارتفاعات القياسية في أسعار الكهرباء والغاز بعد 2022 بمثابة اختبار قاسٍ للاتحاد الأوروبي. ففي ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، بلغت أسعار الكهرباء في 2025 نحو 50% أعلى من متوسط العقد السابق، وفق بيانات «أوبن إنيرجي تراكر». كما قفزت أسعار الغاز بما يفوق 90% عن مستويات 2010-2020، بحسب بيانات «مجموعة بورصة لندن»، ما جعل الغاز أكثر كلفة بكثير من الكهرباء، وعزّز التحوّل نحو الكهربة رغم ارتفاع أسعارها المستمر.
في المقابل، أظهرت التجربة الأمريكية اتجاهاً معاكساً. فأسعار الكهرباء هناك ارتفعت بمعدل 40% عن متوسط العقد الماضي، بينما لم ترتفع أسعار الغاز سوى بنحو 12%، وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. وهذا التفاوت جعل الغاز خياراً أكثر استقراراً وربحية، ورسّخ مكانته كعمود فقري للطاقة الصناعية الأمريكية.
وبحسب توقعات شركة الاستشارات «دي إن في»، فإن هذه التوجهات السعرية ستعمّق فجوة الطاقة بين أوروبا وأمريكا الشمالية. فبعد أن كان استهلاك الكهرباء في المصانع متقارباً عام 2024، نحو 3800 بيتا غول لكل منهما، من المتوقع أن ترتفع حصة أوروبا بنسبة 30% عن نظيرتها الأمريكية بحلول 2050. (كل 1 بيتا غول يساوي 278 مليون كيلوواط/ساعة).
حالياً، يعتمد نحو 33% من المصانع الأوروبية و27% من مصانع أمريكا الشمالية على الكهرباء كمصدر أساسي. وبحلول منتصف القرن، ستقفز النسبة في أوروبا إلى 48% مقابل 34% فقط في أمريكا الشمالية. بالمقابل، سينخفض الاعتماد الأوروبي على الغاز من 28% إلى 11%، بينما سيبقى في أمريكا الشمالية عند نحو 46%.
ولا يجب أن نغفل عن المخاطر التي تُحيط بكل مسار. ففي أمريكا الشمالية، قد يؤدي استمرار تصدير الغاز المسال بوتيرة متسارعة إلى زيادة الضغط على الإمدادات المحلية وارتفاع التكاليف للمصانع. كما أن توسع الطاقة المتجددة والنووية قد يجعل الكهرباء أرخص مستقبلاً، ما يخلق فجوة تنافسية لصالح الصناعات الكهربائية.
لكن في أوروبا، وفي ظل الاعتماد المتزايد على شبكات الكهرباء، ربما يتعرض القطاع الصناعي لموجات من تقلب الأسعار وحتى الانقطاعات، خصوصاً في الدول ذات البنى التحتية القديمة. كما أن الحاجة إلى تحديث شامل للشبكات ستعني سنوات من ارتفاع أسعار الكهرباء، وتقليص هوامش أرباح المصنّعين.
في نهاية المطاف، لن يكون القرار الحاسم بيد صناع السياسات أو رؤساء الشركات، بل بيد المستهلك. فبفضل انخفاض تكاليف النقل بين القارتين، سيجد المنتج الأعلى كلفة نفسه في مواجهة منافسة شرسة من نظيره الأرخص، بغض النظر عن مصدر الطاقة الذي استخدم في إنتاجه.
في عالم تسوده المنافسة على كل دولار، سيصوّت المستهلك بماله، مفضلاً السلعة الأرخص على «الأنظف» أو «الأكثر استدامة». وهكذا، فإن ما بدأ كخيار طاقة استراتيجي قد ينتهي بانقسام اقتصادي طويل الأمد بين ضفتي الأطلسي.. انقسامٌ لا تحركه الجغرافيا وحدها، بل تتداخل فيه السياسة والمناخ والاقتصاد في معادلة معقدة، ستعيد رسم خريطة الصناعة العالمية لعقود قادمة.
*كاتب متخصص في أسواق السلع والطاقة «رويترز»

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا