اقتصاد / صحيفة الخليج

وارن بافيت.. دروس في الحياة قبل الثروة

وعد بالتبرع بـ99% من ثروته للعمل الخيري

بداياته أول درس في الصبر

القوة دون غرور والغنى دون تصنع أفضل الدروس

منزل متواضع ووجبات يومية بسيطة

يؤمن بأن الرضا أهم من تراكم المال

يرسخ في أبنائه قيمة العمل والجهد المستقل


عندما أعلن وارن بافيت انسحابه التدريجي من مسؤولياته اليومية في شركة بيركشاير هاثاواي، توقف العالم المالي للحظة. حللت الأسواق ما سيعنيه رحيله للأسهم والمستثمرين والشركات العملاقة.


ولكن بعيداً عن الأرقام والتقييمات، ظهرت حقيقة أعمق وأكثر هدوءاً - وهي أن أعظم إرث بافيت قد لا يكمن في ملياراته، بل في كيفية عيش حياة يوجهها الوضوح والتواضع والهدف.


وكما جاء في إحدى كلمات التأبين: لقد ترك وراءه درساً خالداً - أن الثروة الحقيقية ليست فيما تملكه، بل في كيفية نظرتك لما تملكه.

طفولة متواضعة

بدأت قصة بافيت بعيداً عن قاعات وول ستريت الفخمة. وُلد «عراف أوماها» الشاب عام 1930 في أوماها، نبراسكا، ونشأ خلال فترة الكساد الكبير.


كان والده، هوارد بافيت، سمساراً في البورصة ثم أصبح لاحقاً عضواً في الكونغرس ؛ وكانت والدته ربة منزل.


كانت الأمور المالية صعبة في بعض الأحيان - لدرجة أن العائلة اضطرت ذات مرة إلى استعارة الحليب من الجيران. ومع ذلك، منحت تلك السنوات بافيت شيئاً سيشكل فلسفته إلى الأبد: فلسفته في تقدير التوفير والتدبير والنزاهة فوق النجاح الظاهري.


في صغره، كان وارن يبيع العلكة، ويوزع الصحف، ويجمع أغطية الزجاجات. في سن الحادية عشرة، اشترى أول سهم له - ثلاثة أسهم من شركة سيتيز سيرفيس بريفيرد - وتعلم أول درس له في الصبر والتحكم في المشاعر عندما باعها مبكراً جداً.


قبل وقت طويل من التحاقه بكلية إدارة الأعمال، اكتشف أن الدراما الحقيقية للتمويل لا تحدث في قاعات التداول بل في عقل وقلب المستثمر.

حياة بسيطة

بكل المقاييس، أصبح وارن بافيت أحد أغنى الرجال في التاريخ الحديث. ومع ذلك، اختار أن يعيش كإنسان عادي. لا يزال يسكن في منزل أوماها الذي اشتراه عام 1958 مقابل 31500 دولار. يقود سيارته الخاصة، ويتناول الطعام في ماكدونالدز، ويفضل علبة كوكاكولا بنكهة الكرز على أي مشروب فاخر. هذه ليست حيلاً دعائية؛ بل تعكس أصالة يجدها حتى منتقدوه، آسرة.


قال بافيت مازحاً ذات مرة: «لست مهتماً بالسيارات، وفكرتي عن وجبة جيدة هي شطيرة جبن». بالنسبة للبعض، تبدو هذه البساطة غريبة؛ أما بالنسبة له، فهي حرية.


تكشف هذه القصة حقيقةً تتجاوز حدود الثروة، وهي أن الرضا لا يأتي من التراكم، بل من القناعة. لطالما قال بافيت: «ليس بالضرورة أن يكون أسعد الناس هم من يملكون كل شيء؛ بل هم من يستغلون ما لديهم على أفضل وجه».


هذه النظرة جعلته شخصيةً فريدةً في عالم الأعمال الذي يحتفي بالرفاهية. فبينما كان الرؤساء التنفيذيون من حوله يشترون الطائرات الخاصة والقصور الفاخرة، حافظ بافيت على روتينه اليومي البسيط.


يقرأ الصحف، ويمر على مكتبه، ويقضي أمسياته في مشاهدة المباريات الرياضية أو لعب البريدج. وفي هذه البساطة تكمن رسالة استثنائية: أن النجاح لا ينبغي أن يكون على حساب إنسانية المرء.

المعلم والصديق

لطالما اتسمت علاقات وارن بافيت المهنية بدفء شخصي. فهو يتحدث عن شريكه في العمل، تشارلي مونجر، بصفته «شريكي في الجريمة» وينسب إليه الفضل في صقل تفكيره. إن صداقتهما - التي بُنيت على مدى عقود من النقاش والضحك والاحترام المتبادل - شهادة نادرة على الرفقة الفكرية في عصر التحالفات العابرة.


كما كان بافيت مرشداً لعدد لا يحصى من المستثمرين الشباب، وكان دائماً كريماً في تقديم النصائح والتواضع.


تبدو رسائله السنوية للمساهمين أشبه برسائل مفتوحة من عم حكيم، مليئة بالفكاهة والحكمة الصريحة، أكثر من كونها تقارير شركات. إنه يكتب للمستثمر الصغير، لا لعملاق صناديق التحوط، لأنه لم ينسَ أبداً شعوره عندما كان صبياً يعدّ النقود المعدنية في أوماها.


إحدى أشهر مقولاته - «يستغرق بناء السمعة 20 عاماً لكن تدميرها يتم في أقل من خمس دقائق» - تلخص إيمانه الراسخ بأن الشخصية هي أثمن ما يملك الإنسان. بالنسبة لبافيت، العلاقات والثقة هي رأس مال حقيقي تماماً مثل الدولارات.

العائلة والإيمان

لم تخلُ حياة بافيت الشخصية من التناقضات والتحديات. تزوج من سوزان طومسون عام 1952، ورغم أنهما عاشا منفصلين لسنوات، إلا أن علاقتهما استمرت حتى وفاتها عام 2004. لقد تشاركا عاطفة عميقة لا تقوم على الكمال بل على التفاهم. كانت سوزان مؤثرة بشكل كبير في أعماله الخيرية، حيث حثته على رؤية الثروة كوسيلة لفعل الخير.

غالباً ما يصف أبناؤه الثلاثة - سوزي وهوارد وبيتر - والدهم ليس كملياردير، بل كرجل شجع الفضول والاستقلال. قال لهم بافيت ذات مرة إنه سيعطيهم «ما يكفي من المال لفعل أي شيء، ولكن ليس ما يكفي لعدم فعل أي شيء». هذه الجملة تجسد إيمانه بالعمل والجهد والقيمة الذاتية - وهي قيم وجهت حياته أكثر من أي ربح.


على الرغم من افتقاره إلى التدين العلني، إلا أن أخلاقيات بافيت لها مرتكز عقدي. إنه يؤمن بالعدل، وبالعطاء، وبكرامة العمل الشريف.


عندما تعهد في عام 2006 بالتبرع بأكثر من 99 في المئة من ثروته - وهو وعد وفى به باطراد - كان ذلك عملاً نابعاً من الضمير، وليس من أجل الشهرة. قال: «إذا كنتَ من بين أغنى واحد في المئة من البشر، فأنتَ مدينٌ لبقية البشرية بالتفكير في التسعة والتسعين في المئة الآخرين».

فلسفة الاكتفاء

في عصرٍ غالباً ما يُخلط فيه بين الثروة والقيمة الذاتية، يبقى بافيت صوتاً للاعتدال. فهو يرفض فكرة أن السعادة تتناسب طردياً مع الدخل. قال ذات مرة: «السؤال الأهم حول سلوك الناس هو ما إذا كانوا يقيّمون أنفسهم بمعايير داخلية أم خارجية.» وقد وجّهت معاييره الداخلية - ذلك الشعور الهادئ بما إذا كان يعيش وفقاً لقيمه الخاصة - كل قرار اتخذه.


تواضع بافيت ليس مجرد تمثيل؛ إنه فلسفة حياة. لقد شهد صعود الثروات وسقوطها، وانفجار الفقاعات الاقتصادية، وانهيار الإمبراطوريات. ورغم كل ذلك، أصرّ على أن المال يجب أن يكون خادماً للإنسان، لا أن يُعرّفه. لهذا السبب يصف نفسه بأنه «محظوظ للغاية» - ليس لملياراته، بل لأنه يمارس عملاً يحبه، ولديه أصدقاء يحترمهم، وشعور بالامتنان لا يمحوه الزمن.

الدرس الخالد

بينما يبتعد وارن بافيت عن العمل اليومي، يقيس العالم نجاحه بالقيمة السوقية، وعوائد الاستثمار، والتبرعات الخيرية. لكن ربما يكون إرثه الأثمن معنوياً أكثر منه مادياً. لقد أظهر أنه يمكن للمرء أن يكون قوياً دون غطرسة، وغنياً دون غرور، ومؤثراً دون تصنع.


ضحكاته، وصبره، ونبرة صوته الهادئة في الأزمات - كل هذه الصفات ألهمت أجيالاً من المستثمرين للتفكير ليس فقط في العوائد، بل في ضبط النفس. في ثقافة مهووسة بـ«المزيد»، تهمس حياة بافيت برسالة ألطف: أن القناعة كافية، والكفاية هي كل شيء.

إرث يتجاوز الأرقام

عندما يكتب المؤرخون عن وارن بافيت، سيذكرون استثماراته - كوكا كولا، أمريكان إكسبريس، أبل، وغيرها - كمعالم عبقرية مالية. لكن أولئك الذين عرفوه عن كثب سيتذكرون الرجل الذي كان يقرأ خمس صحف يومياً، والذي كان يستمع أكثر مما يتحدث، والذي كان يبتسم عندما يصاب الآخرون بالذعر.

في ، قصة بافيت لا تتعلق بالأسواق بقدر ما تتعلق بالمعنى. إنها قصة رجل حوّل الرأسمالية إلى مدرسة وأثبت أن الأخلاق والتعاطف يمكن أن يتعايشا مع . لقد ذكّرنا بأن الثروة، مثل الوقت، أداة - وأن أحكم استخدام لكليهما هو إثراء حياة الآخرين.


وهكذا، بينما ينتقل إلى فصل جديد من حياته، لا يترك وارن بافيت وراءه مجرد محفظة استثمارية، بل فلسفة - تذكير بأن الثروة الحقيقية ليست فيما تملكه، بل في كيفية نظرتك لما تملكه.

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا