تشهد الساحة السياسية الفرنسية شللاً شديداً لدرجة أن استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، وهي فكرة لم تكن تطرح إلا همساً في أروقة السلطة، أصبحت الآن محل نقاش علني.
لكن في حين أن رحيل ماكرون سيُحدث زلزالاً على الساحة الدبلوماسية الأوروبية، فإن هناك شكوكاً متزايدة في أن رحيله سيسهم في حل الجمود السياسي الذي يعيق الجمهورية الخامسة، ويبدو أن مشكلات فرنسا أعمق.
ويبحث ماكرون بالفعل عن رئيس وزرائه الخامس في أقل من عامين في انتظار سقوط حكومة فرانسوا بايرو المحتمل يوم الاثنين، بسبب إجراءاته غير الشعبية لخفض عجز الموازنة الهائل في البلاد.
لكن هل سيتمكن مرشح جديد لرئاسة الوزراء من ماكرون من إقرار المليارات من اليورو اللازمة لتشديد الميزانية لتجنب أزمة ديون؟ وهل ستُسفر انتخابات مبكرة جديدة عن أغلبية عملية؟ لا تبدو أي من النتيجتين مرجحة، وحتى لو استقال ماكرون فمن شبه المؤكد أن خليفته سيواجه العقبات نفسها.
وعلى مدى ما يقرب من 70 عاماً، صمدت مؤسسات الجمهورية الفرنسية الخامسة بغض النظر عن عدد مرات خروج الناس إلى الشوارع أو مدة إضرابهم، وجاءت حكومات وذهبت، بينما استمر الرؤساء في الغالب حتى نهاية ولاياتهم، وإن كانت شعبيتهم أقل مما كانت عليه عند بدايتها.
صمود النظام
لكن اليوم وصلت الهيئة التشريعية إلى طريق مسدود، ومحادثات الميزانية متعثرة، وتعالت همسات الاضطرابات الاجتماعية، والأسواق المالية متوترة، وبايرو نفسه يُحذر من أن باريس ستواجه سيناريو مشابهاً للوضع اليوناني ما لم يُكبح جماح الإنفاق.
وفي ظل هذه الخلفية يدعو رئيس التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا، وزعيم اليسار المتطرف جان لوك ميلينشون، اللذان يُشكل حزباهما معاً ثلث مقاعد الجمعية الوطنية، علناً، إلى رحيل الرئيس.
ولم يعد النقاش الأوسع حول رحيله غريباً، بل أصبح يشمل الآن معلقين سياسيين مرموقين وبعض الشخصيات من يمين الوسط. وقال خبير استطلاعات الرأي في «إبسوس فرنسا»، ماتيو غالارد: «نسمع هذا حتى من أصوات مقربة من معسكر ماكرون». وأضاف: «الانزعاج حقيقي».
ولايزال من غير المرجح أن يستسلم ماكرون، لخروجه المبكر، حيث لا يُتوقع أن إجراء انتخابات رئاسية قبل عام 2027، سيُسهم في حل الأزمة. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن إجراء انتخابات تشريعية جديدة في الأسابيع المقبلة من المرجح أن يُسفر عن برلمان معلق آخر مع بضعة مقاعد إضافية لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان.
أغلبية فاعلة
وقال الخبير الدستوري الفرنسي بنيامين موريل: «يخطئ السياسيون في أن الفرنسيين يختارون قائداً ثم يُسلمونه أغلبية برلمانية فاعلة ليتصرف».
وأضاف موريل أن هذه الفكرة كانت ضحية أخرى لانتصار ماكرون عام 2017 كشخصية ليبرالية «أفسدت التقليد الحزبي الفرنسي». وخطوط الصدع السياسية التي ظهرت من بين الأنقاض في منعطف قاسٍ من تاريخ البلاد عادت لتطارده.
وقال كبير الاقتصاديين السابق في شركة «أكسا للتأمين»، إريك تشاني: «لم أرَ هذا القدر من عدم اليقين منذ أن كنت طالباً عام 1968»، في إشارة إلى احتجاجات مايو 1968 التي شلت الحياة في فرنسا وأدت إلى تغييرات اجتماعية وسياسية عميقة. وأضاف تشاني: «فجأة لا تعرف ما يحدث للاقتصاد والحكومة».
والرئيس الفرنسي معروف بعناده، ولطالما استبعد إمكانية رحيله المبكر. ويُعد هذا السياسي الوسطي، البالغ من العمر 47 عاماً، قوة مهيمنة ومثيرة للاستقطاب بشكل متزايد في السياسة الفرنسية على مدار السنوات الثماني الماضية، في حين لم تتحقق وعوده بتحويل البلاد إلى «دولة الشركات الناشئة» تماماً.
ويدرك الرئيس تماماً أن هناك مؤشرات ضئيلة على استعداد السياسيين الفرنسيين لترك انقسامهم جانباً وحل أزمة الميزانية لما فيه مصلحة الأمة. وفي الواقع يقول المستشار السابق للرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا هولاند، غاسبار غانتزر، إن «المزاج العام في فرنسا غير متعاون على الإطلاق». وأضاف: «سنواصل تعميق العجز، ولن يحدث شيء، وسيزداد الوضع سوءاً».
انتخابات جديدة
لكن تشاني قال إن «أحزاب المعارضة الفرنسية ستكون مخطئة إذا اعتقدت أنها تستطيع تغيير رؤساء الوزراء، وإجراء انتخابات جديدة، وحتى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، دون أن تتجرع الدواء المر الذي حاولت حكومات ماكرون المتعاقبة تقديمه».
وأضاف: «إذا بدأ الناس يعتقدون أن الأمر ليس سيئاً للغاية، وأننا نستطيع التعايش مع العجز، فإننا نتجه نحو أزمة شاملة». وتابع: «ستبدأ ألمانيا في الاعتقاد بأن فرنسا مشكلة خطيرة، وأن البنك المركزي الأوروبي لن يكون قادراً على مساعدة الحكومة الفرنسية في إدارة ديونها».
وأشار تشاني إلى إن ألمانيا قد تضع شروطاً على أي مساعدة يقدمها البنك المركزي الأوروبي لفرنسا، لكن حتى لو تمكنت برلين من الضغط على المؤسسة السياسية الفرنسية، فهل ستذعن فرنسا؟ إذا كانت احتجاجات «السترات الصفراء» في عامي 2018 و2019، واحتجاجات المعاشات التقاعدية في عام 2023، والدعوات الحالية للإغلاق الوطني، دليلاً قاطعاً، فإن الجمهور المتشكك والمضطرب بشكل متزايد ليس لديه رغبة كبيرة في التضحيات والتقشف، أما بالنسبة للتخلص من ماكرون، ففرنسا بلد غارق في تاريخه الثوري، ويدرك مزايا ومخاطر التخلص من الرئيس، ومن السهل المطالبة بتنحيه، لكن يجب أن يكون من يطالب بذلك واقعياً. عن «بوليتيكو»
ديون مفرطة
ناقش صانعو السياسات الفرنسيون ما إذا كانت البلاد ستُجبر على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي إذا استمر البرلمان في مقاومة إصلاحات الميزانية وخفض الديون. وتعاني المالية العامة الفرنسية من حالة الفوضى، ولم تتمكن باريس من خفض اقتراضها كثيراً منذ نهاية الجائحة، لذا فإن عبء الدين العام يرتفع بمعدل غير مستدام.
وبالإضافة إلى تكلفة الدفاع والرقمنة والتحول الأخضر، تنفق فرنسا ما يقرب من 15% من ناتجها الاقتصادي السنوي على المعاشات التقاعدية، وهي نسبة من المتوقع أن ترتفع أكثر مع شيخوخة سكانها.
وعادة ما تطلب الحكومة التي تواجه صعوبات مالية قرضاً من صندوق النقد الدولي عندما ترفض الأسواق المالية إقراضها لأنها تعتقد أنها لن تسدد أبداً، ويحدث هذا عادة بعد أن تغرق الحكومة في ديون مفرطة نتيجة لعجز كبير في الميزانية (إنفاق يفوق بكثير إيراداتها).
وبينما واجهت الجمهورية الخامسة (النظام الدستوري الفرنسي منذ عام 1958) عدداً من المخاوف المالية كما حدث أثناء محاولة الرئيس فرانسوا ميتران «الانفصال التام عن الرأسمالية» في ثمانينات القرن العشرين، فإنها كانت دائماً تُصحح مسارها قبل أن تحتاج إلى مساعدة صندوق النقد الدولي، على النقيض من المملكة المتحدة، على سبيل المثال، التي طلبت الدعم الطارئ في عام 1976.
. هناك شكوك متزايدة في أن رحيل ماكرون سيسهم في حل الجمود السياسي الذي يعيق الجمهورية الخامسة، ويبدو أن مشكلات فرنسا أعمق.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الامارات اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الامارات اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.