خليفة بن حامد الطنيجي
في زمنٍ لم تكن فيه الشاشات تملأ الأفق، كانت الصحافة الورقية نافذة الناس الوحيدة إلى العالم، ورفيق الصباح الذي يحمل الأخبار والقصص برائحة الحبر والورق.
حيث الصحف تُطبع في ساعات الفجر الأولى، ليصحو معها المجتمع على نبض الكلمة الصادقة والعناوين التي تصنع رأياً وتأرخاً لمرحلة مهمه من تاريخ الوطن، فيما كان صوت المطبعة وصفّ الحروف المعدنية سيمفونيةً يومية تملأ أروقة التحرير بالحياة.
في المكتبات والبيوت والمكاتب، كانت الصحيفة تُقرأ بتمعّن، تُطوى وتُمرّر من يدٍ إلى أخرى، تحمل معها حوارات وآراء وتغذّي العقول بالمعرفة.
لم تكن مجرد وسيلة إعلام، بل كانت ذاكرة وطنٍ توثّق تحوّلاته وتُخلّد مواقفه، وتحتفظ بصورٍ من زمنٍ الاتحاد وما قبله.
نحن في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، لنا ذكريات من الزمن الجميل يجب أن تسرد، في هذه الذكرى العزيزة مرور 55 عاماً على انطلاقة صحيفة «الخليج»، حيث كان السباق إلى الصحف يبدأ مع إشراقة الصباح الباكر، حين يتجمّع شباب الذيد أمام دكان بلال المقابل لسكن المعلمين ومدرسة الذيد القديمة.
هناك، يقف الباعة حاملين بين أيديهم صحف الإمارات الثلاث الأشهر آنذاك: «الخليج»، و«الاتحاد»، و«البيان».
يختار القادم الجديد ما يجذبه من العناوين، بينما يُجهّز البائع مسبقاً الصحيفة المعتادة لزبائنه الدائمين الذين يعرفهم بالوجه والاسم.
وبعد أن يفرغ من البيع أمام الدكان، يتجه إلى مدرسة الذيد الثانوية، حيث ينتظر الطلاب وقت الفسحة لاقتناء جرائدهم ومجلاتهم المفضلة، وكانت الخليج أكثرها انتشاراً، يتصفحونها بشغف بين أروقة المدرسة، يتابعون أخبار الوطن والعالم، ويتعلمون منها معنى الكلمة المسؤولة.
كانت تلك اللحظات العفوية فصلاً من ذاكرة الذيد الصحفية، لم يكن أحدٌ يتوقع أنها ستتحول إلى ذكرى نشتاق إليها بعد أن غابت أصوات الباعة وسكت حفيف الورق، بشكل كبير من بين الأيدي.
ومن بين تلك المشاهد التي لا تُنسى، يبرز راشد النداس، أحد عشّاق «الخليج» الذين جعلوها طقساً يومياً.
كان يحرص كل صباح على اقتناء «الخليج» من البائع، ثم يبدأ جولته بين دوار مصبح ودوار الشرطة في قلب الذيد القديمة.
يتوقف بسيارته بجوار سياج مزرعةٍ يتفيأ ظلال أشجار الجزّ العتيقة، ينزل النوافذ ويستنشق هواء الذيد العليل، خاصة في صباحات الجمعة، يراقب السيارات المتجهة نحو المنطقة الشرقية، ويغوص في صفحات الأخبار المحلية والرياضية والمنوعات.
وما هي إلا لحظات حتى يقترب منه سيف البديوي، حاملاً «الخليج» أيضاً، ليقف إلى جواره ويتبادلا الحديث عن علوم الدار وأخبار الناس.
لا يعكّر صفو قراءتهما إلا عابر سبيل يلقي عليمها التحية، فيردّان التحية بابتسامة جميلة، قبل أن يعودا إلى أحاديثهما الهادئة بين الورق والحبر وصوت العصافير.
اليوم، ومع تسارع التحول الرقمي، تبقى الصحافة الورقية صفحةً خالدة من ذاكرة الذيد، بالأخص «الخليج»، تذكّرنا بأن الكلمة الصادقة لا تشيخ، والحبر الذي كتب قصص الناس لا يزال يجري في عروق الذاكرة.
وقد كانت لي مع الصحافة الورقية ذكريات لا تُنسى، ما زالت حاضرة في وجداني، إذ ما زلت، ولله الحمد، حريصاً على قراءتها واقتنائها كما كنت في البدايات.
كنت أنتظر بكل شغف عودة والدي -حفظه الله- من العمل عند الثانية ظهراً، لألتقط منه الصحيفة التي كانت بالنسبة لي كنزاً أبحث فيه عن المعرفة.
كانت لي طقوس خاصة في هذا العالم، حيث أبدأ القراءة من الصفحة الأخيرة، فقد كانت تستهويني رسوم الكاريكاتير، وتلفتني الأخبار الغريبة والعجيبة التي كانت تشعل خيالنا في تلك المرحلة.
ومع مرور الوقت، قررت أن أدّخر جزءاً من مصروفي المدرسي لأشتري صحيفة خاصة بي، إلى جانب الصحيفة التي يجلبها لي والدي. فوقع اختياري من دون تردد على «الخليج»، التي تربينا على أقلامها وصفحتها ومتابعاتها المميزة.
فمنذ لحظات وعينا الأولى، ونحن نحمل شغف الكلمة وفضول المعرفة، نحرص على اقتناء الصحف، وفي مقدمتها صحيفة «الخليج»، تلك النافذة التي أطللنا منها على العالم، نتابع عبرها أحداثه ونحلم بآفاقه الرحبة وها نحن اليوم نبادلها الوفاء بقلمٍ يواصل الحكاية، بإسهاماتٍ دورية في صفحاتها المتنوعة التي يشدّ الرحال إليها القاصي والداني بما تزخر به من ثراءٍ فكري وقوة أقلامٍ رصينة، مضت بإعلامنا نحو فضاءات الصحافة المتميزة، تواكب الحداثة وتحافظ على المهنية.
واليوم، وبعد مرور السنين، أعتز بأن لدي أرشيفاً صحفياً ضخماً يضم آلاف النسخ من الصحف المحلية والدولية ول«الخليج» نصيب الأسد منها، أعدّه ذاكرة شخصية وثقافية توثّق رحلة الإعلام وتحوّلات مدينتي الذيد والوطن والعالم عبر عقود.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.