12 فبراير 2025, 5:00 مساءً
الثقة تُعد واحدة من أثمن القيم في العلاقات الإنسانية، لكنها في الوقت ذاته هشة وسهلة الكسر. فهي تنطوي على قدر من المخاطرة، حيث نعتمد على حسن نية الآخرين ونفترض أنهم سيتصرفون بنزاهة. عندما نثق بأحد، فإننا نمنحه إمكانية الاطلاع على أفكارنا أو أسرارنا أو حتى أموالنا، ونتوقع منه أن يحترم هذه الأمانة دون استغلالها.
تقليديًا، يُنظر إلى الثقة على أنها سلاح ذو حدين؛ فمن جهة، تتيح لنا فرصة الحصول على الدعم والمساعدة، ومن جهة أخرى، تجعلنا عرضة للخداع أو الخذلان. لكن ما يغيب عن هذا التحليل التقليدي هو أن الثقة تمنحنا ميزة أخرى مهمة: إمكانية معرفة حقيقة الأشخاص من حولنا.
عندما نثق بشخص ما، فإننا نمنحه الفرصة لإثبات مدى استحقاقه لهذه الثقة. قد يكون جديرًا بها، وقد لا يكون، لكن في كلتا الحالتين، نحن نتعلم شيئًا مهمًا عنه. أما إذا قررنا عدم الثقة به من الأساس، فلن نعرف أبدًا ما إذا كان خيارنا صحيحًا أم لا، لأننا لم نمنحه الفرصة لإثبات نفسه.
قيمة التعلم غير المتكافئ في الثقة
من منظور نظرية "اتخاذ القرار"، تُعتبر الثقة نوعًا من المجازفة. لكن بخلاف العديد من المخاطر الأخرى، فإنها تمنحنا فرصة تعلم غير متكافئة؛ فحين نثق بشخص ما، يكون لدينا احتمالان: إما أن يثبت أنه جدير بثقتنا، فنكافأ على اختيارنا، أو أن يخونها، فنكتشف أننا أخطأنا في الحكم عليه. في الحالتين، نحصل على معرفة جديدة عن الآخرين وعن قدرتنا على تقييمهم.
أما عندما لا نثق من البداية، فإننا نحرم أنفسنا من فرصة اكتشاف الحقيقة. ليس هذا فحسب، بل إن انعدام الثقة قد يؤدي إلى نتائج سلبية غير مقصودة. فمثلًا، المدير الذي يراقب موظفيه بدقة مفرطة ويرفض تفويضهم بالمهام قد يحوّلهم إلى موظفين سلبيين لا يبادرون باتخاذ القرار، مما يؤكد ظنونه بأنهم غير أكفاء، بينما المشكلة الحقيقية تكمن في عدم منحه لهم الفرصة لإثبات قدراتهم.
التكاليف الخفية لعدم الثقة
أظهرت دراسة حديثة أن فقدان فرص التعلم بسبب انعدام الثقة قد يكون مكلفًا على المدى الطويل. في التجربة، طُلب من المشاركين أن يقرروا ما إذا كانوا سيثقون بأشخاص مجهولين في استثمار مالي صغير. أولئك الذين منحوا الثقة اكتسبوا معرفة حقيقية حول مدى جدارة الآخرين بها، وقاموا بتعديل قراراتهم بناءً على هذه المعرفة. أما الذين رفضوا الثقة، فلم يحصلوا على أي معلومات جديدة، مما جعلهم أكثر ميلًا إلى التقليل من شأن الآخرين والافتراض المسبق بأنهم غير جديرين بالثقة.
الأمر لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمتد إلى المؤسسات والمنظمات. فبيئات العمل التي تفتقر إلى الثقة بين الأفراد تعاني من ارتفاع معدلات الاستقالات، وانخفاض الحافز والإبداع، وغياب الأمان النفسي، مما يعيق قدرة الفرق على اتخاذ المبادرات والمخاطرة من أجل النجاح.
الثقة تُمنح قبل أن تُكتسب
إذا أخذنا في الاعتبار الفوائد التي توفرها الثقة، فإن ذلك يميل كفة الميزان لصالح منحها للآخرين قبل أن يثبتوا استحقاقهم لها. عندما نثق بأحد، فإننا لا نمنحه فرصة لإثبات ذاته فحسب، بل نجعل من الأرجح أن يرد لنا الثقة بالمثل.
هذا لا يعني السذاجة أو التغاضي عن الأخطاء. فإذا خذلنا أحد، فمن المنطقي أن نعيد تقييم ثقتنا به. لكن في كثير من الأحيان، يكون الألم الناتج عن خيانة الثقة أقل ضررًا من الفرصة الضائعة التي نخسرها عندما نرفض الثقة من الأساس.
الثقة وتمكين التفويض
أحد الجوانب العملية لمنح الثقة هو أنه يمكننا من تفويض المهام للآخرين. القائد الذي يرفض منح الثقة لفريقه يجد نفسه غارقًا في التفاصيل، مما يستهلك طاقته ويبطئ إنتاجيته. أما القائد الذي يثق بموظفيه، فإنه يمنحهم المساحة اللازمة لاتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية، مما يؤدي إلى بيئة عمل أكثر كفاءة وفعالية.
عندما نثق في الآخرين، فإننا نشجعهم على التصرف بمسؤولية، حتى لو ارتكبوا أخطاء في البداية. ومن خلال هذه الأخطاء، يتعلمون ويصبحون أكثر قدرة على الإنجاز.
نهاية القول، المعرفة لا تأتي بلا مخاطرة
عدم التكافؤ في الثقة يشكل واقعًا أساسيًا في العلاقات الإنسانية. فإذا قررنا منح الثقة، فإننا نفتح الباب أمام احتمالين: إما أن نكافأ ونكسب شريكًا جديرًا بالثقة، أو أن نتعرض للخذلان، لكننا على الأقل نكون قد تعلمنا شيئًا جديدًا. أما إذا اخترنا عدم الثقة، فإننا نحرم أنفسنا من أي فرصة للمعرفة، ونظل عالقين في دائرة الشك وعدم اليقين.
لذلك، بدلاً من أن ننتظر من الآخرين أن يثبتوا استحقاقهم لثقتنا، قد يكون من الأفضل أن نمنحهم إياها أولًا، مع استعدادنا لتعديل قراراتنا وفقًا لما نكتشفه لاحقًا. فمن خلال المخاطرة المحسوبة بالثقة، نتمكن من بناء علاقات أقوى، وبيئات عمل أكثر إنتاجية، وفهم أعمق لمن حولنا، وأيضا لأنفسنا.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة سبق الإلكترونية ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة سبق الإلكترونية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.