شهدت الدولة الأموية في الشام تفككًا كبيرًا في آخر عهدها وكان الأمراء متوجّسين من هجوم العلويين، فجاءهم الهجوم المباغت من العباسيين، فقتلوا الموجود منهم، وطاردوا الشريد.
وكان من بين الفارين الأمير عبدالرحمن الداخل الملقب صقر قريش (113- 172هـ/ 731- 788م) ومعه خادمه، فقال خادمه بعد النجاة من المذابح: «قد سمعتك يا سيدي تقول لأهل بيتك: العزيمة الآن أن نبقى أحياء»، والعزيمة تعني الخطة.
والحقيقة أن هذه الكلمة الخالدة لم ترد في كتب التاريخ رغم بحثي الطويل عنها، ولكنها وردت في مسلسل «صقر قريش» (الحلقة 11) المأخوذ من رواية «النار والعنقاء» (ج 2 ص 8) لوليد سيف، وهي كلمة متخيلة، ولكنها تندرج ضمن الخيال الأدبي الفاخر، الذي لا يُلهم بها إلا من دخل في مخ الأحداث وتعمّق في نفسية عبدالرحمن الداخل في اللحظة التي امتلأ شعوره بها، فهي لسان حال جديرة أن يبنى عليها قصة.
وانتهت به عزيمته إلى تأسيس دولة أموية قوية في الأندلس التي دخلها أميرًا دون قتال، بسمعته وقوة شخصيته التي سبقته، فلقب بالداخل، وسرعان ما عقد تحالفات مع قبائل العرب والبربر، وجدد وهج قرطبة حتى ارتبط تاريخها الحديث بسيرته، واستمرت دولة الأندلس ثلاثة قرون (138- 422هـ/ 756- 1031م).
هذه القصة الموجزة استوقفت المؤرخين والمستشرقين وكتبوا عنها الكثير، واستوقفت المخرجين، فأنتجوا حولها مسلسلات وأفلاماً سينمائية، بينما استوقفت كلمة «الخطة أن نبقى أحياء» مدربي تطوير الذات، وأقاموا حولها الدورات، حتى أصبح تأسيس دولة الأمويين في الأندلس ثقافة عامة ومعلومات يعرفها الإنسان العادي ويستمتع بها ويستلهم تطوير شخصيته من أحداثها.
وسير القادة وتعاملهم مع تحويل الأزمات إلى فرص تتكرر عبر الزمان، ولكنه تكرار يحمل معه ثيمات أساسية كان لها تأثير في تغيير التاريخ، وليس محاكاة تفصيلية، وأجد هذه الثيمات تتشابه بين الأميرين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود (توفي عام 1179هـ/ 1765م).
داخل الدرعيةكنت أقرأ قصة تولي الإمام محمد بن سعود في التاريخ السعودي، ولكنها تمر مرور الكرام، ولا تكاد تتجاوز النص التالي: «فرجع الأمير محمد بن سعود ومن معه إلى الدرعية أميرًا عليها»، فكان لا بد من تفكيك هذا السطر وتحويله إلى قصة تنال مكانها الطبيعي من تاريخنا المحلي، بل تاريخ العرب الحديث باعتبار ما آلت إليه.
ما بين رجوع الأمير محمد بن سعود إلى الدرعية وتتويجه أميرًا عليها كانت خطته أن يبقى حيًّا فكان تتويجه بمثابة تتويج للخبرة والإيثار والوفاء والشجاعة؛ حيث اجتمع أعيان آل سعود ووجهاء الدرعية وجموع الأهالي لمبايعته بالإجماع ليكون أميرًا على الدرعية عام 1139هـ، وأحسن إدارة الدرعية؛ حيث كثف جهوده لاستقرارها وبناء مؤسساتها الدينية والاقتصادية والعسكرية، ونقل الصراع السياسي إلى خارجها.
النجاة فن القادة
من تفكيك قصة الأميرين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود من زاوية فن النجاة والقيادة في ظل الأزمات، يلحظ التالي:
- كلا القائدين ظهرا من بيئة سياسية مضطربة، وكان هروبهما من صراعات طائشة وقتل بالجملة بداية مرحلة إعادة بناء الذات في موقع آمن.
- كلا القائدين واجها تهديدًا حقيقيًا لحياتهما، فالبقاء لا يعني تفادي الموت، فكثير ممن حضر الأحداث تفادى الموت، لكن شخص واحد فقط في كل حادثة كانت عينه على تحويل لحظة النجاة إلى تأسيس نقطة انطلاق جديدة.
- كلا القائدين أحسن الاستثمار في الفراغ السياسي؛ حيث كانت الأندلس تعاني من الفوضى، كما كانت الدرعية تعاني من الفوضى، فكان المشروع التنموي السياسي الذي بدأ من نقطة الإمارة وتوسع إلى دولة عالمية.
- أسّس عبدالرحمن الداخل دولة أموية جديدة في الأندلس، غيّرت وجه أوروبا، بينما وضع محمد بن سعود الأساس للدولة السعودية الأولى التي غيّرت وجه الجزيرة العربية.
- قدرة القائدين على التركيز على مصالح الدولة العليا، وتجاوز التجارب الأليمة وعدم تشتيت الوقت والجهد في الانتقام رغم فداحة الغدر والقرب الزمني، فكانت سياسة القائدين بناء الداخل وتقويته والتوسع المنضبط.
- دخل عبدالرحمن الداخل الأندلس بسمعته التي سبقته، ودخل محمد بن سعود الدرعية بسمعته التي سبقته، والقادة قادرون على صنع الهالة حول شخصياتهم والاستثمار فيها مدى العمر، وليست مواقف عابرة ومتغيرة، مما يتطلب منهم انضباطًا نفسيًا وعاطفيًا كبيرين.
أخبار ذات صلة
- كلا القائدين أظهرا شجاعة استثنائية تحت الضغط المميت؛ حيث تحولت حياة كل منهما إلى قادة دول بعد النجاة.
- أعاد عبدالرحمن الداخل نهضة قرطبة، وبنى فيها الجامع الكبير، وشجع على استيطانها حتى اكتظت سكانيًا، ووسع محمد بن سعود حي الطريف، وجعله العاصمة السياسية، وبنى الجامع الكبير، وشجع على استقطاب السكان لها.
- آمن القائدان بفطرتهما القيادية بضرورة الاقتصاد كأداة للسيطرة، فنشطت الزراعة والتجارة في بلديهما، وكانت أساس بناء الدولة القوية.
فالبقاء على قيد الحياة باعتبارها غاية إنسانية تعتبر مسألة وجودية، خاصة إذا كان الموت أحد الخيارات المطروحة؛ حيث يكون الوجود له الأولوية، ثم تأتي بعد ذلك القرارات، ويظهر ذلك في فلسفة نيتشه الذي يرى فيها أن إرادة القوة هي الدافع للنجاة والنجاح.
تحويل المستحيل إلى ممكن: صناعة التحالفات
عرف عبدالرحمن الداخل أهمية التحالفات، فحشد القبائل العربية والبربرية في الأندلس لكسب الشرعية، وهذا اللغز يكمن في تحويل المستحيل إلى ممكن بالتحالفات، ولا يدرك عمقه إلا من مرَّ بظروف عبدالرحمن الداخل، ولكنها بقيت في نفس محمد بن سعود ثمانية عشر عامًا حتى حانت الفرصة وعزز حضور المؤسسة الدينية في المجتمع باعتبارها أحد العصبيات القادرة على إيجاد مجتمع متجانس ودولة قوية، بحسب نظرية ابن خلدون.
وأثبتت مرارة القصتين لكلا القائدين أن الشرعية لا تكتسب بالنسب إلى بيت إمارة فقط، بل لا بد من توحيد القبائل حول فكرة متماسكة ومصلحة مشتركة.
فالتحالف عند القائدين هو مشروع إعادة تشكيل الخارطة السياسية وفقًا لاحتياجات المرحلة، فكان تحالف محمد بن سعود الديني عبارة عن «عقد اجتماعي» جديد أعاد تعريف مفهوم العلاقة بين السلطة والمجتمع بشكل لم يألفه أفراد المجتمع من قبل.
والتحالف طويل المدى وسيلة للبقاء في عين القائد الذي مرّ بتجربة الاقتراب من الموت، وهو أداة قوة في عين القائد العادي. وقرأ الإمام محمد بن سعود القائد الصموت مخاوف القبائل والبلدان، ولم يستعجل الفرصة عندما لم يجدها، بل انتظر حتى نضجت الظروف المحلية، ورأى تقوية المؤسسة الدينية.
كان التحالف بين تجربة الأندلس وتجربة نجد يعبّر عن ثنائية العقل المتمثل في استراتيجية البقاء، والعاطفة المتمثلة في الثقة المتبادلة.
ختام
المقارنة بين قائدين لا يجمع بينهما زمان ولا مكان، يعطي نتائج قوية أكثر من المقارنات المتشابهة، وأجريت هذه المقارنة لاستنطاق روح القيادة التي تظهر تحت الضغط القاتل، فبرزت تشابهات القادة بوضوح، ولو لم يتعرض عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود لمواقف شديدة، لما رأينا الإبداع في إرادة القوة.
وتحليل السير الذاتية لقادة آل سعود بفكر استراتيجي وفلسفي والنفاذ على أعماق النفس البشرية أثناء الأحداث وفهم ما يدور بداخل القائد من خيارات واسعة، وتفكيك خياراته الخاصة، سيضعها في سياق تاريخي سليم، بينما دراستها بأسلوب تقليدي يعتمد على حشد النصوص سيلحق الضرر المعنوي، ويقلل من متعة التاريخ، ويحجب الكثير من الحقائق دون قصد، ويفسد عظمة الوثائق.
وسبق لي كتابة مقالة مقارنة بين الإمام عبدالعزيز بن محمد وإيفان الرهيب «الجيوبوليتيك بين نجد وروسيا»، وأجد في الاستمرار في التجربة مجالًا لفتح آفاق بحثية وأدبية وفنية جديدة تأخرت كثيرًا.
ومن المقارنة التاريخية بين المؤسس وابنه، يتضح أن الدولة السعودية تجدد ذاتها بالقادة عبر ثلاثة قرون، ويجد قادتها الفرص في الأزمات، ويهدفون للمصالح العليا للدولة في المواقف السياسية.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.