03 يونيو 2025, 5:38 مساءً
حين تتحرك الجموع نحو مكة، في مشهد يتكرر منذ قرون، قد يبدو الأمر للعين مجرد طقس ديني محض، لكن النفس البشرية التي تسير بين تلك الحشود تحمل طبقات من المشاعر والتجارب والتحولات التي تجعل من الحج تجربة إنسانية ونفسية استثنائية. لا يعود الحاج كما كان، لا في وعيه، ولا في علاقته بذاته، ولا في طريقة إدراكه للحياة. وكأن هذا الركن العظيم من أركان الإسلام هو أيضاً، بطريقته الخاصة، علاج جمعي، وتحرير داخلي، وإعادة ترميز لهوية الفرد، ولو لفترة.
منذ لحظة الاستعداد للحج، يدخل الإنسان في ما يمكن تسميته بـ "مرحلة ما قبل التحوّل"، وهي شبيهة بمفهوم "مرحلة ما قبل التأمل" في علم النفس، حيث يبدأ وعيه بمراجعة ذاته، وتحديد نواياه، وإثارة أسئلته الكبرى: ماذا أريد من هذه الرحلة؟ ما الذي أحمله داخلي؟ ما الذي أحتاج أن أضعه أخيراً؟ وبينما يتهيأ نفسياً، يبدأ في التحرر التدريجي من الضغوط المعتادة والعلاقات اليومية، ويبدأ عقله في التحول من نمط التفكير العملي المعتاد إلى نمط تأملي أعمق.
في لحظة الإحرام، يخلع الإنسان ثيابه كما يخلع عن نفسه رموز هويته الاجتماعية. يؤكد علم النفس الاجتماعي أن الإنسان عادة ما يعرف نفسه من خلال موقعه الاجتماعي، مظهره، لقبه، طبقته، لكن الإحرام يضع الجميع في مستوى واحد: لا مدير ولا عامل، لا غني ولا فقير، لا اسم ولا لقب. في هذه اللحظة، لا يُرى الإنسان إلا كما هو. هذا التجرد له تأثير نفسي عميق، إذ يحرر الفرد من "قناع الذات الاجتماعية" ويوفر له فرصة نادرة لرؤية نفسه بوضوح كما لم يفعل من قبل.
حين يصل الحاج إلى عرفات، تبدأ لحظة من أكثر اللحظات النفسية كثافة وصدقاً. هناك، يقف الإنسان أمام الله، لكنه أيضاً يواجه ذاته. كل ما لم نُفصح عنه، كل ما كُبت من مشاعر، كل ألم مؤجل، وكل ندم خفي، يخرج فجأة في مشهد يشبه ما يسميه علم النفس بـ "التحرر الانفعالي" أو Catharsis، وهو تنفيس داخلي يمر به الإنسان حين يُتاح له فضاء آمن للتعبير. البكاء، الانهيار، الدعاء المُلِحّ، ليست علامات ضعف، بل مؤشرات على عملية شفاء داخلية طال انتظارها.
الطقوس المنظمة للحج، مثل الطواف والسعي والمبيت والرمي، ليست فقط شعائر، بل أدوات نفسية عميقة تنظم حياة الفرد داخلياً. يدرك علم النفس السلوكي قيمة الطقوس المتكررة في تهدئة القلق وخلق الإحساس بالأمان، تماماً كما تُستخدم طقوس بسيطة في علاج اضطرابات القلق واضطرابات ما بعد الصدمة. الإنسان يشعر بالانضباط حين يكون محاطاً بإطار منظم يمكنه التنبؤ به، وهذه الطقوس تلعب هذا الدور بامتياز، خاصة في بيئة يغلب عليها التجرد والاختلاف عن الحياة اليومية.
وللدعاء، في الحج تحديداً، وظيفة نفسية عظيمة. يشير علم النفس الإيجابي إلى أن الحديث الذاتي الصادق، خاصة حين يكون محملاً بالرجاء والتعبير الحر عن المشاعر، يساعد في تنظيم الانفعالات والتقليل من التوتر الداخلي. الدعاء بصوت مرتفع، أو حتى داخلي، ليس فقط عبادة، بل عملية " تنظيم ذاتي عاطفي" دقيقة، تُخرج الإنسان من دائرة الصراع الداخلي إلى أفق من الأمل والطمأنينة، وتفتح له باباً للتصالح مع نفسه قبل أي شيء آخر.
وسط الزحام، والتعب، واختبار الصبر، يمر الحاج بلحظات ضيق وضغط واختناق. لكن ما يُبقيه متماسكاً هو ما يُعرف في علم النفس باسم "المرونة النفسية"، وهي قدرة الإنسان على التأقلم مع الضغط وتجاوز المواقف الصعبة دون أن يفقد اتزانه. مشهد الملايين في تناغم رغم مشقة الحر والطريق والتحديات يمنح الإنسان إحساساً بأنه ليس وحده، وأن هذا الجهد مشترك، وهو ما يشبه جلسات العلاج الجمعي حيث يتخفف الألم حين نعرف أن غيرنا يعاني مثلنا.
من منظور مدرسة العلاج بالمعنى التي أسسها فيكتور فرانكل، يظهر الحج كرحلة الإنسان العميقة نحو إيجاد معنى لحياته. في زحمة الحياة وضجيجها، يجد الإنسان نفسه أحياناً ضائعاً يبحث عن شيء يُعيد إليه توازنه ويمنحه شعوراً عميقاً بالهدف. في هذه اللحظات، حيث يفقد الكثيرون بوصلة الحياة، يظهر الحج ليس فقط كطقس ديني، بل كرحلة داخلية تعكس جوهر البحث الإنساني عن المعنى، فالإنسان بحاجة مستمرة للمعنى الذي هو المحرك الأساسي له، وحياته بلا معنى تصبح عبئاً ثقيلاً يؤذي النفس ويجعلها تتعثر.
حين يبدأ الحاج الاستعداد للحج، يبدأ معه داخلياً رحلة البحث عن سبب لما هو قادم. الإحرام ليس مجرد لباس، بل إعلان داخلي بالانطلاق من كل ما يثقل النفس، وتحرير الذات من الرموز الاجتماعية والهويات المألوفة، ليبدأ الحاج من جديد بلا أقنعة، وبلا ألقاب. في هذه اللحظة، تتجلى الحرية والمسؤولية معاً، حيث يختار الحاج أن يواجه وجوده في أبسط صوره، وأن يعيد تعريف علاقته مع ذاته والعالم.
وعندما يصل الحاج إلى عرفات، يواجه ذروة البحث عن المعنى، حيث يعبر عن كل ما في داخله من آلام، شكوك، آمال، وأحلام. إنها تجربة " التحرر الانفعالي" التي من خلالها يخفف الإنسان عن نفسه أعباءً كانت تثقل روحه، ولكنه لا يتوقف عند الألم، بل يبدأ في رؤية المعاناة كفرصة لاكتشاف معنى جديد، خطوة في نمو نفسي عميق. كما يؤكد فرانكل، المعاناة تحمل بذور التحول إذا نظرنا إليها بعين الباحث عن المعنى.
الطقوس المنظمة التي يمر بها الحاج، من الطواف إلى السعي والرمي، ليست فقط شعائر جسدية، بل أطر تسمح له بخلق سياق من المعنى والتنظيم الذاتي. هذه الطقوس تساعده على تجاوز حالة الفراغ الوجودي التي يمكن أن تعصف بالنفس، وتمنحه إحساساً بالانتماء والهدف، إذ إن الإنسان بحسب العلاج بالمعنى لا يعيش منفصلاً عن محيطه، بل ضمن قصة تعطيه معنى.
وبعد أداء المناسك، يعود الحاج إلى حياته مع شعور متجدد بالامتنان والهدف. هذا الشعور هو ما يسمى في علم النفس "النمو ما بعد الصدمة" ، حيث يُعاد تشكيل النفس بطريقة إيجابية بعد تجربة عميقة. يصبح الحج نقطة تحول، يعيد الحاج صياغة رؤيته لذاته وللعالم، ويكتشف أن لديه سبباً جديداً للعيش، وقوة لتحمل صعوبات الحياة.
في النهاية، يمكننا القول إن الحج، وإن كان في ظاهره عبادة شعائرية، فإنه في جوهره رحلة نفسية عميقة تمر بمراحل متعددة: من التهيئة، إلى المواجهة، إلى التنظيم، إلى التحرر، ثم البناء من جديد. إنه ليس فقط طريقاً إلى مكة، بل طريق إلى الداخل، حيث تتكشف الذات وتتخفف من أوجاعها، ليعود الحاج أخف وزناً نفسياً، أكثر سكينة، وأكثر قرباً من نفسه.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة سبق الإلكترونية ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة سبق الإلكترونية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.