نبيل عمر
حسابات المكسب والخسارة فى طوفان الأقصى!
قال لى طبيبى: ممكن أن تريح دماغك تماما، وإلا لن أكون مسئولا عنك، لا تشاهد نشرات الأخبار فى التليفزيون، لا تقرأ كتبا فى السياسة والتاريخ، لا تتابع شبكات التواصل الاجتماعى، يعنى فرفش، اتفرج على أفلام كوميدية، مسلسلات مسلية، اسمع أغانى مبهجة خالية من الهجر والدموع والأسى، خليها (ضحك ولعب وجد وحب) على طريقة عبد الحليم حافظ، اذهب إلى الريف، سافر إلى سيوة أو أسوان، اعمل «رحلة فى الصحراء»!
ضحكت بجد قائلا: يعنى أقاطع العالم، وأنت نفسك متابع كل صغيرة وكبيرة على الكوكب، كيف أفعلها فى تلك الظروف المعقدة التى تحيط بنا، التفكير فريضة، والعقل هو أثمن ما يملكه الإنسان، وعلينا جميعا أن نفهم حتى نجنب مصر وأنفسنا «المخاطر» التى تكاد تقفز إلينا عنوة!
قال: أسبوعان ثلاثة، حتى يهدأ توترك ويخف وجع دماغك..
طبيبى مثقف منشغل جدا بالشأن العام، وفى الوقت نفسه مهنى محترف، عاشق لمهنته مكب على كل معارفها، يشبه الدكتور محمد أبو النجا فى قصة يوسف إدريس «على ورق سوليفان».
ثم سألنى: ما أخطر ما يؤثر فيك ويتعبك إلى هذه الدرجة؟
قلت: قد أكون متألما من جراء ما حدث فى المنطقة من حروب أهلية وانقسامات واضطرابات، انتهت باختفاء العالم العربى الذى درسته فى المدارس الإعدادية والثانوية، سبع دول فيه صارت أسماء دون واقعها الذى عرفناه، أغلبها دول فى المركز الجغرافى للمنطقة، سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وليبيا، ناهيك عن اليمن فى مدخل باب المندب، والسودان بوابته الجنوبية إلى إفريقيا ومنابع النيل، ولم يبق من هذا المركز إلا القلب «مصر»، ورغم فقرها والمشكلة الاقتصادية هى عمود الخيمة المنتصب وحيدا فى منطقة تجرفها عواصف مصطنعة ومقصودة، وبقاء هذا العمود صامدا يحافظ على أمل العودة وتصحيح الخراب الذى حاق بهذه الدول، ولو على مدى بعيد نسبيا، كما فعلت مصر عبر تاريخها كله، ومؤكد أن العدو لا يرغب ويتربص بعمود الخيمة.
قال: عندك حق.. لكن شعب مصر فاهم وعارف وتركيبته الإنسانية مختلفة، وتجاربه التاريخية أعمق كثيرًا من أن يسقط فى الفخ.
غادرت، وكنت على موعد مع مجموعة من الأصدقاء الذين يشاركوننى قلقى، وفكرت أن «أعتذر» لهم، حسب تعليمات الطبيب، وقبل أن أطلب صاحب الدعوة، طلبنى هو، مستفسرا: أين أنت؟، نحن ننتظر، وقد تأخرت نصف الساعة وهذا ليس من عاداتك.
قلت له: ممكن أعتذر، نصحنى طبيبى أن أبتعد عن أى مناقشات عن الأحوال العامة لمدة أسبوعين على الأقل.
قال غاضبا: لن نقبل اعتذارا، ابدأها من الغد، بضع ساعة لن تفرق!
فاستجبت واتجهت إليهم، كنا أربعة، صحفيين ومهندس ومدير حسابات..
بعد التحيات والسلامات، سألونى: هل سمعت تهديدات دونالد ترامب للمنطقة بأنه سيحولها إلى جحيم إذا لم تفرج حماس عن الرهائن الإسرائيليين؟
قلت: تهديدات رعناء قديمة متكررة ممتلئة بالغطرسة.
سأل المهندس: ما الذى يمكن أن يفعله ترامب، حين يصل إلى البيت الأبيض دون الإفراج عن الرهائن؟
قلت: لا أتصور جحيما أكثر مما حدث فى غزة.
قالوا فى نفس واحد: إذا ماذا يقصد؟
قلت: أظنه تهديدا لكل أهل المنطقة، يقول لهم إن لم تجدوا حلا مع حماس خلال الأيام العشرة المقبلة، ستدفعون جميعا ثمنا باهظا، وأظن، مع أن بعض الظن حرام، أنه تهديد بتنفيذ التهجير القسرى لأهل غزة، وربما أيضا لبعض أهل الضفة الغربية، أى أنه سيسمح لإسرائيل بمزيد من عمليات الإبادة وجرائم الحرب، لإجبار أهل غزة وسكان مناطق فى الضفة إلى الفرار إلى أقرب ملاذ أمامهم.
سألوا: وهل هذا ممكن؟
أجبت: سيحاولون، لكنهم سيفشلون، لأن الفلسطينيين قرروا أن يموتوا فى أرضهم ولا يغادرونها، لقد تعلموا دروس التاريخ، من يترك أرضه يستعصى عليه أن يعود إليها مرة أخرى. وقطعا هذه المحاولات ستمثل خطرا وضغوطا هائلة على مصر والأردن بالدرجة الأولى، ودول الخليج بدرجة أقل.
نظر إلينا مدير الحسابات ممتعضا وقال: إذن ما حدث فى 7 أكتوبر هو حسابات خاطئة من حماس، يعنى طوفان الأقصى هو السبب فى كل ما حدث، تدمير غزة، الحرب فى جنوب لبنان وتدمير عشرات القرى فيه، انهيار الحكم فى سوريا لمصلحة ميليشيات متطرفة، كبيرها كان على قائمة الإرهابيين المطلوبين من الحكومة الأمريكية، وكان عضوا فى تنظيم القاعدة ثم تنظيم داعش،عجيبة جدا، هلل بعضنا لطوفان الأقصى وانتهى إلى كارثة وشرق أوسط جديد على الطريقة الأمريكية الإسرائيلية!
قلت: مبدئيا، حماس ليست الفلسطينيين، مجرد فصيل منهم، تأسس بدعم من الغرب وإسرائيل وبعض العرب، وكان الهدف هو تفتيت الفلسطينيين، وأى جماعات مسلحة لا يمكن السيطرة التامة على تصرفاتها، فكان طوفان الأقصى، والفلسطينيون لهم الحق فى الكفاح المسلح ضد الاستعمار الصهيونى كما تعترف به كل القوانين والمواثيق الدولية، ثانيا، قضايا تحرير الشعوب من الاستعمار، ليست من أعمال الشركات، فلا تحسب معاركه بالأرباح والخسائر المادية المباشرة، فهى معارك طويلة وممتدة وغير متكافئة، خاصة إذا كان هذا الاستعمار الاستيطانى مثل إسرائيل، مدعوما من القوى الكبرى المتحكمة فى النظام العالمى، تخيلوا إسرائيل فى جانب، معها وأمامها وخلفها، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول غربية أخرى بكل ما يملكونه من إمكانات عسكرية ومخابراتية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية، والفلسطينيون فى الجانب الآخر (يا مولانا كما خلقتني) إلا من إيمانهم بالله وحقهم فى الوطن، مع مساعدات عسكرية واقتصادية محدودة من دول تستغل «قضيتهم» فى دور إقليمى، يتيح لهم التفاوض على مصالحهم الخاصة، والفلسطينيون مجبرون على قبول هذه المساعدات، فهم كالغريق الذى يتعلق بقشة.
قالوا: هذا لا يغطى هذا القدر المفزع من الخسائر البشرية وتدمير كامل البنية التحتية وسبل الحياة فى قطاع غزة، وإيقاظ حالة التوحش الإسرائيلى فى الضفة الغربية أيضا!.
قلت: لا أعرف شعبا أو جماعة إنسانية نجحت فى الحفاظ على حقوقها من مستعمر سواء كان مؤقتا أو استيطانيا دون دفع ثمن باهظ جدا، الفيتناميون مثلا خسروا فى حرب استقلالهم سواء ضد الفرنسيين ثم ضد (الأمريكيين وقوات فيتنام الجنوبية)، ما بين 1.3 مليون إلى 3.8 مليون نسمة، منهم 400 ألف مدنى، ولو حسبوا الخسائر التى أوقعتها بهم القوات الأمريكية فى عشر سنوات ما تحررت فيتنام فى عام 1975، وكان الأمريكيون يلقون قنابل النابالم بوحشية على القرى ويحرقونها بالكامل، بشرا وحيوانات ومزروعات!
هذا للعلم مع الفارق الهائل بين طبيعة وظروف الفيتناميين والفلسطينيين، الفيتناميون الشماليون كانوا أكثر تسليحا وتدريبا وخلفهم قوة عظمى هى الاتحاد السوفيتى، ويتحركون من أرضهم ضد قوات أجنبية تحارب فى أرض غريبة عنهم.
وإذا تحدثنا عن الهند فقد نشر «جيسون هيكيل» عالم الإنثروبيولوجيا الاقتصادية فى مجلة « التنمية العالمية» أن الاستعمار البريطانى تسبب فى مقتل ما يقرب من 165 مليون شخص فى الهند، ما بين عام 1880 إلى عام 1920 فقط!، ناهيك عن المجاعة التى تسبب فيها رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل فى عام 1943، ومات فيها ثلاثة ملايين هندى جوعا، ليوفر الطعام لإمبراطوريته وجنوده فى الحرب العالمية الثانية على حساب الهنود.
قالوا: إذن مأساة الفلسطينيين مستمرة!
قلت: نعم، طالما ظلوا متمسكين بأرضهم ووطنهم واستقلاله، ولا يتحولون إلى مشردين فى البلاد الأخرى.
قالوا: إذًا علينا أن نتعايش مع تلك الخسائر الرهيبة ونعتبرها «مهرا» فى عملية التحرير المستمرة!
قلت: من فضلكم هذا كلام جاد، لا يجب أن نستخدم فيها كلمات قد يساء فهمها، ومأساة الفلسطينيين ليست فقط فى «الدعم الكامل غير المشروط» من الغرب الاستعمارى للعدو الإسرائيلى، ولكن فى ضعف نظام «الجماعة العربية»، الناتج عن «التحالف غير المشروط» لعدد مهم من دول هذه الجماعة مع الولايات المتحدة.
لكن على الجانب الآخر.. صارت قضية فلسطين «شأنا» معلوما لسكان كوكب الأرض، بعد أن قاربت على الموت البطىء، وقد استمعت إلى ثلاثة من كبار مغنى الأوبرا فى العالم وهم ينشدون معا على أنغام أوركسترا عالمية «تحيا فلسطين»، وهذا حدث فريد، بعد 77 عاما من إعلان دولة إسرائيل وحكايات الهولوكست، والبقية تأتى، والأهم أن أجيال الفلسطينيين التى ستطلب الثأر قادمة لا محالة!
أحسست بوجع فى دماغى، قمت منتفضا، اعتذرت لهم وغادرت المكان!
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة متر مربع ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من متر مربع ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.