عندما يقضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونائبه جيه دي فانس، وعدد من أنصارهما، وقتهم في انتقاد أوروبا والتقليل من شأنها، فإن القضية الجوهرية لا تكمن في مدى صحة هذه الانتقادات أو خطئها، ولا حتى في الطريقة التي ينبغي على القادة الأوروبيين الرد بها، بل السؤال الأهم هو: ما الذي يدفع من يرفعون شعار «أميركا أولاً» إلى بذل هذا الجهد في تشويه صورة دول تقع على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الوزن الحقيقي الذي لاتزال أوروبا تتمتع به، على الرغم من كل ما يثار حول نقاط ضعفها، حيث إن هذا الاهتمام الأميركي السلبي في جوهره ليس إلا اعترافاً غير مباشر بأهمية أوروبا، بل ويمكن اعتباره نوعاً من الإطراء غير المرغوب فيه.
نقاط قوة
في الواقع، تستمد أوروبا أهميتها من نقاط وعناصر قوتها، وليس من مظاهر الضعف التي يتهمها بها ترامب وفانس. فمنذ أن شنت روسيا حرباً على أوكرانيا في فبراير 2022، كانت الدول والمؤسسات الأوروبية مسؤولة عن تقديم ما يقارب ثلثي إجمالي المساعدات العسكرية والمالية التي تلقتها كييف، وفقاً لمؤشر دعم أوكرانيا الصادر عن معهد «كيل»، إضافة إلى أكثر من 95% من المساعدات التي جرى التعهد بها ولم تصرف بعد.
كما أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي يفوق الاقتصاد الروسي بثمانية أضعاف، أو بـ10 أضعاف إذا ما أُضيفت المملكة المتحدة. ورغم أن هذه الدول قد لا تحقق مستويات الازدهار التي تطمح إليها، فإنها تمتلك القدرة على مواصلة دعم أوكرانيا، وهو ما يشكل عائقاً أمام إدارة أميركية ترغب في إنهاء الحرب الأوكرانية باعتبارها عقبة أمام إعادة بناء علاقات تجارية مع روسيا.
لاشك في أن الشركات الأوروبية متأخرة مقارنة بنظيراتها الأميركية في العديد من مجالات التكنولوجيا الرقمية، غير أن أهمية أوروبا تتجلى أيضاً في ردود الفعل العنيفة التي أظهرها ترامب ونائبه فانس تجاه الغرامة التي فرضها الاتحاد الأوروبي في الخامس من ديسمبر الجاري على شركة «إكس»، المملوكة للملياردير الأميركي إيلون ماسك، والتي بلغت 120 مليون يورو. فهذه الغرامة، خلافاً لما ادعاه فانس، لم تكن اعتداء على حرية التعبير، بل مجرد تطبيق للقانون نتيجة انتهاك قواعد الشفافية الأوروبية.
الاتحاد الأوروبي
وفي إطار استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة، عبّر ترامب وفانس وأنصارهما عن رفضهم لفكرة الاتحاد الأوروبي نفسها، واعتبروه كياناً «فوق وطني» يهدد سيادة الدول. غير أن الحقيقة أن إنشاء الاتحاد الأوروبي وتطوره كانا نتاج قرارات سيادية ديمقراطية للدول الأعضاء، وليس تهديداً لسيادتها كما يُروّج.
ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبي لا يشكل خطراً فعلياً على الأمن الأميركي، خصوصاً أن 23 دولة من أصل 27 دولة عضواً فيه هي حليفة للولايات المتحدة ضمن حلف شمال الأطلسي «الناتو».
لكن ما يهدده الاتحاد فعلياً، هي الحرية المطلقة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة على الإنترنت، والتي يعتمد عليها ترامب وفانس سياسياً، فالقوة التنظيمية للاتحاد الأوروبي تمس بشكل مباشر أرباح هذه الشركات ونفوذها.
تراجع المكانة الأميركية
وتزداد أهمية أوروبا بالنسبة للإدارة الأميركية الحالية من زوايا أخرى، حيث إن نتائجها المتقدمة في المجال الصحي، وأنظمة الرعاية الاجتماعية الأكثر كفاءة، واهتمامها الكبير بقضايا، مثل التغير المناخي، والحد من عدم المساواة، كلها عوامل تبرز تراجع المكانة الأميركية حتى في نظر مواطنيها، ناهيك عن نظرة العالم الخارجي.
ومن هذا المنطلق، تصبح أوروبا مرآة تعكس للولايات المتحدة صورة لا تروق لها أحياناً، وهو ما يجعلها تثير استياء ترامب، تماماً كما تثير أوكرانيا الديمقراطية غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لذلك، لا ينبغي النظر إلى هذه الهجمات الأميركية على أنها «جرس إنذار» لأوروبا، فالكثير منها يقوم على ادعاءات غير صحيحة، كما أن أوروبا بدأت منذ وقت طويل الاستجابة لتحديات جوهرية، مثل زيادة الإنفاق العسكري، وتوسيع الصناعات الدفاعية، وتعزيز حضورها الدبلوماسي.
والمفهوم الذي كان يعرف بـ«الغرب» لم يعد قائماً إذا كانت الولايات المتحدة، التي قادت هذا التكتل لعقود، تشن حرباً سياسية على أوروبا، بينما تتجنب تصنيف روسيا والصين كتهديدات. وقد لا يكون هذا الغرب قد انتهى إلى الأبد، لكنه في حكم المنتهي طالما بقي ترامب أو فانس في البيت الأبيض.
الاختبار الحقيقي
ومن الآن فصاعداً، يتعين على أوروبا أن تتصرف وكأنها تعتمد على نفسها. ولا يعني ذلك تجاهل الولايات المتحدة أو الدخول في مواجهة مباشرة معها، بل اتخاذ قرارات مستقلة، والترحيب بالدعم الأميركي عندما يتوافر، دون انتظار إذن أو ضوء أخضر من واشنطن، وهو ما فعله كثير من القادة الأوروبيين خلال النصف الأول من هذا العام.
وكان الاختبار الحقيقي لهذا التوجه هو استمرار الدعم المالي لأوكرانيا، لاسيما مقترح منحها قرضاً، بالاعتماد على أصول البنك المركزي الروسي المجمدة في المصارف الأوروبية منذ فبراير 2022.
وقد وافق الاتحاد الأوروبي بالفعل على تفعيل صلاحيات الطوارئ المنصوص عليها في (المادة 122) من معاهدة الاتحاد الأوروبي لتجميد هذه الأصول إلى أجل غير مسمى، وهي خطوة من المرجح أن تحظى باحترام ترامب نفسه، نظراً لاعتماده هو الآخر على صلاحيات الطوارئ في فرض تعريفات جمركية.
وسيحول هذا الإجراء دون قدرة الحكومات الموالية لروسيا، مثل حكومة المجر، على عرقلة القرض من خلال تعطيل نظام العقوبات الذي أدى أساساً إلى تجميد الأصول الروسية.
وبالفعل، توصل قادة الاتحاد الأوروبي، أمس، إلى اتفاق لتقديم قرض بقيمة 90 مليار يورو لأوكرانيا لسد العجز المتوقع في ميزانيتها، لكنهم أخفقوا في إيجاد تسوية لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لتوفير التمويل.
قرار حاسم
ومن خلال اتخاذ قرار حاسم في هذا الملف، أو إيجاد آلية بديلة وسريعة لتمويل أوكرانيا إذا تعذر الاتفاق، يؤكد القادة الأوروبيون قوتهم الحقيقية، ويعززون الموقف التفاوضي لأوكرانيا في مواجهة كل من روسيا والولايات المتحدة.
كما يمكن لأوروبا أن تظهر مزيداً من القوة عبر طرح مقترحات عملية لإرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا لضمان أمنها في حال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع روسيا.
وقد هددت موسكو بأنها ستعتبر أي قوات أوروبية على الأراضي الأوكرانية أهدافاً عسكرية مشروعة. وإذا كانت روسيا جادة في هذا التهديد، فإن ذلك يعني بوضوح أنها غير جادة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو سلام حقيقي، وهنا يقع على عاتق أوروبا كشف النوايا الحقيقية لكل من فلاديمير بوتين، وكذلك دونالد ترامب.
بيل إيموت*
*رئيس تحرير سابق لـ«الإيكونوميست»
عن «آسيا تايمز»
تحذير
هناك الكثير مما لايزال يتعين على أوروبا إنجازه، كما أن بعض الدول الأوروبية لم تستوعب بعد حجم التهديدات الأمنية الراهنة، إلا أن القارة الأوروبية، في مجالات عديدة، تسير بوضوح في الاتجاه الصحيح.
وعلى قادة الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة أن ينظروا إلى هجمات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رغم فظاظتها وعدم لياقتها في كثير من الأحيان، على أنها تحذير من أن التحالف السياسي الذي اعتمد عليه العالم الغربي لتحقيق السلام على مدى ثمانية عقود قد تعرض للتفكك.
. تقدم أوروبا في المجال الصحي وأنظمة الرعاية الاجتماعية الأكثر كفاءة واهتمامها بقضايا مثل التغير المناخي، كلها عوامل تبرز تراجع المكانة الأميركية.
. الاتحاد الأوروبي لا يشكل خطراً فعلياً على الأمن الأميركي، خصوصاً أن 23 دولة من أصل 27 دولة عضواً فيه هي حليفة لواشنطن ضمن «الناتو».
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الامارات اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الامارات اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
