منوعات / صحيفة الخليج

«رحلة 404»..ثراء في التمثيل والإخراج والتأليف

مارلين سلوم

أفلام للجمهور وأفلام للمهرجانات، هكذا يتم تصنيف الأفلام غالباً، وتصلح المقولة حين تجد أمامك فيلماً «معقداً» يصعب على الجمهور العادي فهم أبعاده الفلسفية وتعقيداته الفنية والإخراجية ويحلّق به مؤلفه نحو الكثير من الرمزية أو السوداوية والأزمات النفسية غير الواضحة.. وتكون عكسها تماماً ما يطلقون عليها «أفلام للجمهور»، وتصل أحياناً إلى حد التفاهة الشديدة والسطحية، بينما نخبة الأعمال هي تلك التي تستطيع الارتقاء بالجمهور إلى مستوى متذوقي السينما الراقية والقصة التي تلامس الواقع وتحمل أبعاداً إنسانية فلسفية عميقة دون فلسفة الحوار كي يصبح غير مفهوم من قبل كل الناس، المتعلمين وغير المتعلمين، وترتقي إلى مستوى المشاركة في المهرجانات العالمية وتحصد حب الجمهور في وقت واحد.. هذا ما ينطبق على «رحلة 404» الذي اختارته حديثاً نقابة المهن السينمائية المصرية، ليمثل في مسابقة جوائز الأوسكار 2025، ليكون خير اختيار وخير تمثيل وخير نموذج للفيلم الذي يرضي كل الأذواق باختلاف المستويات.
كثيرة الأفلام المصرية التي تناولت موضوع «التوبة» وقصة اضطرار فتاة لسلوك طريق الانحراف والدعارة بسبب قهر اجتماعي أو ظروف عائلية صعبة ترغمها على البحث عن وسيلة تجني من خلالها الأموال لإعالة أو إعانة أسرتها، أو بسبب غدر من حبيبها فتخلى عنها ليتزوج من فتاة أخرى ابنة أبيها المدللة والثرية والتي يضمن من خلالها لنفسه منصباً في شركة أبيها ومن ثم إدارة أموال زوجته واستيلائه لاحقاً على كامل الثروة ن مثلما حدث في فيلم «الرحلة 404».. قهر اجتماعي وانحراف ثم شعور بالندم يطارد البطلة ويصل بها إلى مرحلة الاكتفاء والندم والبحث عن كل ما يشجعها على العودة إلى الحياة الطبيعية ومحاولة غسل كل الذنوب بالتوبة، فهل يكون باب التوبة مفتوحاً دائماً حتى ؟ وهل باب الاستجابة أيضاً مفتوح دائماً؟ وهل تستطيع التائبة الانتقال إلى مرحلة جديدة و«نظيفة» في حياتها وسط نفس معارفها ونفس محيطها وأهلها؟
المؤلف محمد رجاء برع في نقل قصة قديمة من حيث الفكرة، إلى مرحلة جديدة لم يكتف فيها بالتوبة النفسية، بل تجسيدها معنوياً وفعلياً بسعي البطلة وإصرارها على القيام برحلة الحج، وهي رمزية تربط بين المعنى النفسي والاجتماعي والديني، بُعد إنساني وديني واجتماعي، توبة أرادتها البطلة غادة سعيد والتي تجسدها منى زكي، فهل باب التوبة مفتوح في كل وقت؟ والأهم أن الكاتب أراد أن يؤكد طوال رحلة استعداد غادة للذهاب في رحلة الحج برفقة والدها سعيد (حسن العدل) والتي امتدت طوال مدة الفيلم، أن الطريق إلى التوبة ليس سهلاً، بل هو مملوء بالأشواك والعقبات وكل ما يدفع المرء للعودة إلى الخطيئة ويشكك بتوبته وقد يدفعه رغماً عنه باتجاه العودة إلى الوحل الذي غرق فيه واعتاد عليه، رحلة تحتاج إلى الكثير من الصبر والعزيمة والإصرار، فهل تنجح غادة في استكمال رحلتها نحو التوبة والتمسك بالإيمان، أم أن «الظروف» والمجتمع وكل المشككين بها وبصدق توبتها يعطلون مسارها فتلغي رحلة الحج ورحلة الإيمان لتستكمل رحلة الحياة؟ أيهما ينتصر النزعة الروحية أم الجسدية؟
غادة سعيد تعمل في إحدى شركات العقارات وتبرع في تحقيق نسبة مبيعات جيدة، محجبة، لكن «الحجاب المودرن»، حيث تظهر بعض خصل من شعرها وترتدي ملابس ضيقة و«على الموضة»، تستعد للسفر في رحلة للحج بكل فرح ولهفة، يرافقها والدها سعيد الذي يعيش في منزل بسيط مع زوجته إلهام سما إبراهيم وابنهما، بينما أمها طليقته سهير (عارفة عبد الرسول) وأم ابنة تدعى لمياء (رنا رئيس)، تعيش وحدها وتطارد ابنتيها باستمرار من أجل الحصول على المال، ونفهم أنها جشعة ولا تهتم من أين وكيف ستحصل ابنتيها على المال، ما يدفع بغادة لإبعاد لمياء كي تتفرغ لدراستها وتتولى هي مسؤولية مواجهة أمها ومحاولة صدها، لكن سهير، تصر على مطاردة غادة وتنتظرها أمام مقر عملها لتتجادل معها في الشارع وتسبب لها إحراجاً فتعبر الشارع غادة هرباً منها، فتصدم سيارة الأم وهي تحاول اللحاق بابنتها.
هذا الحادث هو مدخل ومحور أساسي لتحويل مسار القصة، ويبدو جلياً أن المؤلف يتعمد نقل الأم إلى مستشفى خاص ويقرر تضخيم الأزمة، حيث تحتاج إلى إجراء عمليتين، ما يعني دفع تكاليف باهظة، ومن الطبيعي أن لا يكون المبلغ الكبير اللازم متوفراً مع طليقها ولا مع ابنتها الكبرى غادة، وبما أن الأب سعيد لا يملك المال ولا النية للبحث عن كيفية تأمين المبلغ لطليقته المزعجة، لا يبقى أمام غادة سوى العودة إلى معارفها والنبش في دفاترها القديمة كي تؤمّن كلفة علاج والدتها. والعودة إلى الوراء هي النافذة التي يُدخلنا منها المؤلف محمد رجاء والمخرج هاني خليفة إلى حكاية غادة لنتعرف إلى الأشخاص الذين مروا بحياتها وتركوا أثراً مهماً ونصل إلى من كان السبب في انحراف مسارها والتحول من طالبة جامعية مجتهدة إلى فتاة تعمل في الدعارة قبل أن تقرر تغيير مسارها وارتداء الحجاب و«غسل» ذنوبها وبالتوبة والذهاب إلى الحج..
البحث عن إنسان يُقرضها المبلغ المطلوب لإجراء عملية لوالدتها يدفعها لتطرق باب شهيرة شيرين رضا القوادة التي عملت عندها غادة، والمفروض أن بينهما مساحة من الصداقة، فتوافق شيرين على منحها المبلغ شرط أن تعود غادة لليلة واحدة لتشارك في حفلة من حفلات شهيرة الصاخبة والتي تصادف قبل ليلة من موعد سفر غادة إلى الحج، عودة يشترطها أحد «المعجبين» بغادة والذي سيكون على استعداد لمنحها المبلغ، طبعاً ترفض العرض وتخرج للبحث عن مانح آخر، فتبحث عن طارق، وتسأل عنه في كل مكان، هاتفه مغلق ولا تعرف مكانه، ثم فجأة يرد على الاتصال ويتفقان على موعد في مكتبه، هنا نفاجأ بأن في حياة غادة «طارقين» طارق عبد الحليم (محمد ممدوح) الحبيب الأول والوحيد في حياتها والذي غدر بها أيام الجامعة وبعد معاشرتها تركها ليتزوج من فتاة أخرى ثرية ويؤسس معها أسرة ويرث من والدها أهم معرض .. وطارق عبد الحميد (محمد فراج) طليقها المدمن الذي لم تره منذ خروجه من السجن، مفارقات مقصودة، طارق الذي بحثت عنه غادة هو طليقها فاتصلت عن طريق الخطأ بطارق الذي كان سبب انحرافها وعذابها، لُبس أراده المؤلف ليس ليشرح لنا فقط سبب وصول غادة إلى ما وصلت إليه، بل ليكشف عن خطيئة أعظم ارتكبها شاب بحق فتاة أدت إلى تدمير حياتها بينما أكمل هو حياته بشكل طبيعي، خطيئة لا يحاسبه عليها المجتمع، لكنها عند الله لا تقل عن خطيئة الزانية، ونلاحظ أن المؤلف جعل من رحلة غادة عن المال رحلة اعتذار من الآخرين أي المجتمع لها..
من طارق الأول إلى ياسر (خالد الصاوي) الرجل الذي يعيش مأساة وهو على حافة الانتحار بسبب زوجته، والذي تقنعه غادة بأن هذا «اختبار من ربنا» وتدعوه للذهاب إلى الحج.. إلى هشام (محمد علاء) الطبيب والطبال وتاجر المخدرات والسمسار، رجل متعدد الأوجه والمتلون والذي يسرق جهد وتعب غادة، إلى طارق الثاني طليقها الذي تنهي رحلة طرق أبواب معارفها عنده لنكتشف أنه تزوجها انتقاماً من أمه التي عرفت الكثير من الرجال في حياتها وتسببت له بعقدة نفسية. رحلة طويلة والكل يحاول إقناع غادة بالعودة إلى ما كانت عليه، فالتوبة ليست لها ولن تستطيع العيش حياة مستقيمة «ما فيش حاجة اسمها توبة» تسمعها كثيراً، وهي ترد باستمرار «ربنا بيسامح واحنا لازم نحاول»، فمن ينتصر في النهاية، وأي طريق ستسلك البطلة؟
مصادفات يتعمدها المؤلف كي تخدم أهداف القصة، كثيرة المعاني الروحانية، وكثيرة العبارات التي نلتقطها ونتفاعل معها في هذا الفيلم الغني تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً.. الكل فيه بطل وإن كانت منى زكي هي الشخصية المحورية والرئيسية والتي تثبت أنها نجمة الأدوار والمهمات الصعبة.. فيلم يطول عنه الحديث مهما اتسعت المساحة، يستحق الجوائز والأهم أنه يستحق الانتشار كي يشاهده الجمهور في كل مكان.
الشيء الوحيد الذي يؤخذ على الفيلم هو أن اسمه لا يدل على مضمونه، فكل الأحداث تدور قبل الرحلة، والمعروف أن الفيلم تغير اسمه عدة مرات لأسباب رقابية، ويبدو أن صناعه لم يجدوا وسيلة للهروب من الرفض الرقابي سوى اسم «الرحلة 404».
أفلام للجمهور وأفلام للمهرجانات، هكذا يتم تصنيف الأفلام غالباً، وتصلح المقولة حين تجد أمامك فيلماً «معقداً» يصعب على الجمهور العادي فهم أبعاده الفلسفية وتعقيداته الفنية والإخراجية ويحلّق به مؤلفه نحو الكثير من الرمزية أو السوداوية والأزمات النفسية غير الواضحة.. وتكون عكسها تماماً ما يطلقون عليها «أفلام للجمهور»، وتصل أحياناً إلى حد التفاهة الشديدة والسطحية، بينما نخبة الأعمال هي تلك التي تستطيع الارتقاء بالجمهور إلى مستوى متذوقي السينما الراقية والقصة التي تلامس الواقع وتحمل أبعاداً إنسانية فلسفية عميقة دون فلسفة الحوار كي يصبح غير مفهوم من قبل كل الناس، المتعلمين وغير المتعلمين، وترتقي إلى مستوى المشاركة في المهرجانات العالمية وتحصد حب الجمهور في وقت واحد.. هذا ما ينطبق على فيلم «رحلة 404» الذي اختارته حديثاً نقابة المهن السينمائية المصرية، ليمثل مصر في مسابقة جوائز الأوسكار 2025، ليكون خير اختيار وخير تمثيل وخير نموذج للفيلم الذي يرضي كل الأذواق باختلاف المستويات.

[email protected]

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا