اقتصاد / صحيفة الخليج

قطاع العقارات والمباني صفرية

هشام الأسعد*

لم تعد الاستدامة مجرد هدف بعيد المنال، بل أصبحت ضرورة ملحة في مختلف القطاعات، وعلى رأسها قطاع العقارات. وبات المطورون وصنّاع القرار والمستثمرون يعملون وفق رؤية موحدة نحو بناء بيئة عمرانية خالية من الانبعاثات الكربونية. يكمن وراء هذا التحول عدة عوامل رئيسية أبرزها السياسات الحكومية الداعمة والحوافز المالية والتطورات التكنولوجية المتسارعة، ما يجعل الاستدامة ركيزة أساسية في تحديد قيمة العقارات.
فرضت استراتيجية الحياد المناخي 2050 التي تتبعها دولة تحديات كبيرة على سوق العقارات في دبي، حيث إن متطلبات المباني المدخرة للطاقة، فضلاً عن القوانين البيئية الصارمة، لم تعد مجرد توصيات، بل تحولت إلى معايير إلزامية تعيد تشكيل السوق العقاري. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مبادرة نظام تقییم المباني الخضراء في دبي «السعفات» التي أطلقتها بلدية دبي، والتي تحدد معياراً واضحاً للبناء المستدام. أصبح الامتثال ميزة تنافسية بحد ذاته، حيث باتت المواءمة مع اللوائح التنظيمية العامل الحاسم في تحديد جدوى المشاريع وإمكانية تنفيذها. تعزز آليات السوق هذا التوجه، حيث أصبح المطورون يعتبرون الالتزام باللوائح المستدامة عاملاً مباشراً في ارتفاع قيمة الأصول.
تضع المؤسسات المالية العالمية معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) ضمن أولوياتها، ما يفرض ضغوطاً إضافية على المطورين لاعتماد حلول أكثر استدامة. في المقابل، فإن المحافظ العقارية التي تفتقر إلى استراتيجيات الاستدامة تواجه خطر فقدان قيمتها في المستقبل.
تشكل التقنيات الناشئة فرصةً غير مسبوقة لإزالة الكربون، إذ تقوم الشبكات الذكية والمواد عالية الأداء وأنظمة إدارة المتقدمة بإعادة صياغة المعادلة الاقتصادية للبناء المستدام. كما أحدثت تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء ثورة في إدارة المباني، حيث تعمل أنظمة التحكم الذكية على ضبط استهلاك الطاقة تلقائياً ضمن المشاريع الكبرى.
تمثل أنظمة التحكم الذكية بالمناخ مثالاً بارزاً على الابتكارات التي تحدث تحولاً في استهلاك الطاقة، إذ تتعلم سلوكيات السكان وتعدل أنظمة التبريد والتدفئة تلقائياً، ما يقلل من هدر الطاقة. ولا تقتصر فوائد هذه التقنيات على تحسين كفاءة التشغيل، بل تعزز أيضاً تجربة المستخدم، حيث يستفيد السكان والمستأجرون من تكاليف تشغيل أقل وراحة أكبر وبصمة كربونية منخفضة، بينما يحقق المطورون قيمة استثمارية طويلة الأجل.
وعلى الرغم من حداثة مفهوم التمويل الأخضر في المنطقة، إلا أن الأدوات المالية المصممة لدعم الاستدامة تشهد تطوراً متسارعاً. فالسندات الخضراء والقروض الموجهة للمشاريع المستدامة والتمويل القائم على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، كلها أدوات مالية أصبحت تدعم التحول نحو المباني الصفرية. كما تربط بعض المؤسسات المالية العالمية شروط الإقراض بأداء الطاقة ومقاييس الحد من الكربون، ما يجعل المشاريع المستدامة أكثر استقطاباً للمستثمرين.
يدرك مطورو العقارات العوائد المالية الكبيرة للاستثمار في المباني الخضراء. فالوصول إلى رأس مال منخفض التكلفة والاستفادة من الحوافز الضريبية والتأمينية من شأنهما أن يعيدا تشكيل معايير الجدوى الاقتصادية للمشاريع. كما أن المستثمرين يعتبرون العقارات الحاصلة على شهادات الاستدامة أكثر استقراراً وأقل عرضة للمخاطر المستقبلية. ومع تزايد الاهتمام بالمعايير العالمية للاستدامة، ترتفع قيمة هذه المشاريع في السوق، ما يعزز جاذبيتها الاستثمارية ويزيد من سيولتها المالية.
لا يقتصر التحول نحو المباني الصفرية على المشاريع الجديدة فحسب، بل يشمل أيضاً العقارات القائمة في دبي، والتي بات بعضها بحاجة إلى عمليات تأهيل شاملة. يعتبر التحديث حلاً فعالاً لتحقيق الحياد الكربوني على نطاق واسع، حيث إن تحسينات كفاءة الطاقة مثل تحديث أنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء وتعزيز العزل الحراري ودمج مصادر الطاقة المتجددة تساهم في خفض الانبعاثات بسرعة وفاعلية. ومع تنامي الحوافز التنظيمية والمكاسب الاقتصادية جراء تحسين كفاءة العقارات، أصبح تحديث المباني القديمة ضرورة استراتيجية للحفاظ على قيمتها السوقية وتجنب مخاطر التراجع في ظل تحول القطاع العقاري نحو الاستدامة.
باتت الجدوى الاقتصادية لعمليات التحديث أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، حيث أصبحت ادخارات الطاقة وارتفاع معدلات الإشغال والحوافز التنظيمية عوامل حاسمة في جعل هذه التحسينات استثماراً لا غنى عنه. في المقابل، يواجه أصحاب الأصول الذين لا يتكيفون مع هذا الواقع مخاطر تراجع قيمة عقاراتهم والتعرض لعقوبات تنظيمية. فالتجاهل لا يعني فقط ارتفاع التكاليف التشغيلية، بل قد يؤدي إلى فقدان الأصول لمكانتها في سوق يشهد تحولاً متسارعاً نحو معايير أكثر صرامة في الكفاءة والاستدامة.
ويعتمد قطاع البناء حالياً على نموذج تقليدي يرتكز على استخراج المواد واستخدامها في البناء ثم التخلص منها، ما يؤدي إلى هدر كبير للموارد. فبات التحول نحو نموذج دائري أمراً ضرورياً، حيث يتم إعادة استخدام المواد والحد من الهدر ومراعاة دورة حياة المبنى بالكامل بدءاً من مرحلة التخطيط. إن هذا التحول قيد التنفيذ، مدفوعاً بالاعتماد المتزايد على البناء المعياري والتصنيع المسبق واستخدام المواد منخفضة الكربون.
يتفوق المطورون الذين يتبنون المبادئ الدائرية على منافسيهم، إذ تسهم هذه الاستراتيجيات في خفض تكاليف المواد والحد من المخلفات الناتجة عن عمليات البناء وتحسين جداول تنفيذ المشاريع، ما يحقق مكاسب مالية وبيئية مستدامة. ومع تزايد التدقيق على سلاسل توريد المواد وانبعاثات الكربون المدمجة فيها، لم يعد البناء الدائري مجرد خيار بل أصبح ضرورة ملحّة وفرصة استراتيجية لتعزيز الكفاءة والاستدامة.
ويُحدث التقارب بين الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء تحولاً جذرياً في إدارة المباني، وذلك من خلال التحليلات التنبئية وأنظمة التحكم الآلي والتحسين القائم على البيانات، ما يعزز الاستدامة. تمثل مراقبة الطاقة المدعومة بإنترنت الأشياء مثالاً جوهرياً على ذلك. توفر العدادات الذكية رؤى دقيقة حول أنماط الاستهلاك، ما يمنح مديري العقارات القدرة على تنفيذ تعديلات فورية لتعزيز الكفاءة. إضافة إلى ذلك، تتيح النماذج المدعومة بالذكاء الاصطناعي القدرة على التنبؤ بفترات الذروة في الطلب، ما يساعد على الحد من الهدر في استهلاك الطاقة. ولا تقتصر هذه الابتكارات على تقليل الانبعاثات فحسب، بل تعيد صياغة مفهوم الكفاءة التشغيلية، ما يمهد الطريق لبيئة أكثر استدامة.
لا يمكن لأي جهة منفردة تحقيق صافي الانبعاثات الصفرية بمعزل عن الآخرين، بل يتطلب ذلك تنسيقاً بين المطورين وصانعي السياسات والمؤسسات المالية ومزودي التكنولوجيا. وستكون الشراكات بين القطاعين العام والخاص ضرورية لسد الفجوات التمويلية وتسريع الابتكار وضمان التوافق التنظيمي.
لطالما كانت دبي نموذجاً للتحولات الطموحة، ومع سجلها الحافل في تطوير بنية تحتية عالمية وإنشاء مناطق حرة وخلق بيئة أعمال جاذبة، فهي تملك المقومات اللازمة لقيادة التحول نحو الاستدامة. سيكون من الضروري وضع أطر جديدة لسياسات تشجع على مشاركة القطاع الخاص، مدعومةً بحوافز تقدمها الحكومة.
يشهد السوق تغيّراً ملحوظاً، حيث أصبح المستثمرون والمشترون والمستأجرون يضعون الاستدامة في مقدمة أولوياتهم. تحقق المباني الموفرة للطاقة معدلات إشغال أعلى وعوائد مالية أفضل، بينما تساهم المساحات الداخلية المصممة بعناية، بفضل جودة الهواء والإضاءة الطبيعية، في تعزيز راحة السكان ورفع مستوى جودة حياتهم.
ستغدو المباني الخضراء المعيار الأساسي في سوق العقارات بدبي، حيث يعزز المطورون الذين يتبنون الاستدامة اليوم مكانتهم الريادية، في حين يواجه المتأخرون خطر التراجع والتهميش.
* مؤسس شركة «أُسُس» العقارية

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا