الحُكم على الآخرين ليس فعلًا سطحيًا كما يبدو، بل هو نتاج تفاعلات خفية تجري في أعماق النفس.فحين نُسارع إلى وصف إنسان بالغباء أو التكبر أو السطحية، ففي حقيقة الأمر، نحن لا نصفه قدر ما نُعرّي شيئًا كامِنًا في دواخلنا.
فنحن نميل للحكم لأن فينا هشاشة لا نريد مواجهتها، ولأن صورة الذات التي نحاول الحفاظ عليها لا تحتمل أن ترى في الآخر ما نخشاه في أنفسنا. فالذي يحكم على المغرور، قد يُخفي شعورًا بالدونية. والذي يسخر من المتردد، قد يعاني من قلق داخلي تجاه اتخاذ القرار. فهو انعكاس اللاوعي الذي يُسقط مخاوفه على وجوه الناس من حوله. لأن الحُكم أداة نفسية مريحة. تجعلنا نشعر بالعلو، وبالأفضلية. لكنها راحة مؤقتة ومخادعة، تبني سورًا بيننا وبين وعينا الحقيقي، وتُلهينا عن مواجهة السؤال الأصعب:
لماذا أزعجني هذا التصرف؟
ما الذي أيقظه في داخلي؟
هل هذا الانزعاج نابع من الآخر، أم منّي أنا؟
فمن من السهل أن ندين، لكن الأصعب أن نتأمل. ومن السهل أن نصنّف، لكن الأصدق أن ننظر في المرآة. وهي هنا ليست الآخرين فحسب، بل الطريقة التي نراهم بها. لأننا حين نُمارس الحُكم على الآخرين بكثرة، فإننا نُحرم من رؤية أعمق ما في الإنسان: تلك الرؤية الشفافة التي ترى ما وراء المظهر، وما وراء السلوك، وما وراء اللحظة. تلك القصة التي لم تُروَ، والجُرح الذي لم يُضمّد، والخوف الذي لم يُسمَع. إن هذه الرؤية لا تولد إلا حين نتخفف من قناع الصواب المُطلق، ونتواضع أمام الحقيقة: فأنا لا أعرف كل شيء. وقد يكون في الآخر ما لا أفهمه، لكنه حقيقيّ في تجربته، صادق في ألمه، وإن بدا لي غريبًا أو مستفزًا. ففي الغالب حين نحكم فنحن نُسرع إلى الهروب من مواجهة أنفسنا. ونُسكت تساؤلاتنا العميقة بحكم سطحي، ونُريح ضميرنا بوضع اللوم خارجنا. أما لو تجرأنا على الصمت بدل الإدانة، قد نسمع صدى حقيقيًا لحاجاتنا غير المعلنة.فقد نحكم لأننا نغار، وأحيانًا، أو لأننا نود لو كنا نملك ما لدى الآخر من حرية أو حضور. فالحكم لا يكشف عيوب الآخرين، بل يكشف النقاط التي لم نتصالح معها في ذواتنا. وكل حكم نُصدره هو دعوة للتأمل، لا للإدانة، ومحاولة لفهم ما نحتاجه نحن لا ما ينقص غيرنا.وحين نُدرك هذا، يصبح الآخر مرآة للتعلّم، لا هدفًا لإسقاط ما لم نعالجه في داخلنا. وفي المقابل، حين نبدأ بتخفيف الأحكام على الآخرين، تنعكس هذه الممارسة مباشرة على علاقتنا بأنفسنا. فالنفس التي تعتاد التسامح، تبدأ تدريجيًا بالتخفف من جلد الذات. وتتراجع بداخلها حدة النقد الداخلي. وتبدأ الكلمات اللطيفة بالظهور في حوارنا مع أنفسنا: «ربما كنت مرهقًا، لا فاشلًا»، «ربما كنت محتاجًا للاحتواء، لا ضعيفًا»
هذا التحوّل من الحُكم إلى الفهم، ومن الإدانة إلى التساؤل، هو بوابة الرحمة الحقيقية. فالرحمة لا تعني تبرير الأخطاء، بل احتواء الإنسان، كما هو، بكامل تعقيده وتناقضه. ولعلّ السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا في نهاية كل حُكم هو: هل ما قلته عن الآخر، يكشف عنه.. أم عني؟ هل أنا أراه، أم أرى ظلي الذي لا أجرؤ على مواجهته؟ وفي هذا التساؤل، تبدأ الرحلة نحو وعيٍ أنقى، ونفسٍ أكثر اتساعًا، وقلبٍ لا تحكمه الحاجة إلى أن يكون «على حق»، بل إلى أن يكون صادقًا.
فهل تجرؤ أن ترى ما وراء حُكمك؟
وهل تملك شجاعة الإنصات لما يكشفه عنك؟
@LamaAlghalayini
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.