في عدد سابق لصحيفة «عكاظ» -31 أكتوبر 2025- قرأت ثلاثَ قصصٍ قصيرةً للقاص ظافر الجبيري، وما شدني هو براعته في إيداع هذه النصوص معاني متعددة، تقع في حيز قريب مما يعرف اختصاراً بـ(ق ق ج).
القاص غنيّ عن التعريف، وهو من أهم كتاب القصة القصيرة في السعودية، ومع إصداره خمس مجموعات، إلا أنه ما زال وفيّاً للقصة القصيرة، فقد بدأها مع أولى مجموعاته: (خطوات يبتلعها المغيب) عام 1997م، وجاءت (الهروب الأبيض) في عام 2008م، ثم (يوميات حبّ مزمن) في عام 2014م، وأعقبها بمجموعة (رجفة العناوين) في عام 2017م حتى وصل عام 2020م فجاءت مجموعته (تسوّل) مقتصرة على القصة القصيرة جدّاً.
وقد حاولت استجلاء خفايا ومدلولات النصوص التي علمت بأنها ستكون ضمن مجموعة جديدة سيصدرها الكاتب قريباً.
قصة (غزالة)
حينما يفقد القويُّ مصدر قوته، فكل ما كان يستخدمه مسبقاً لنيل ما يريد، يصبح بلا تأثير، هنا قصة تحاول محاكاة الواقع الإنساني في شخوص خيالية، فالبطلة -الغزالة التي سماها (دكتورة ريم)- نجد الكاتب يجري لعبته القصصية عن تغير الأدوار بفعل الارتقاء بالمكانة العلمية، فالدكتورة صاحبة عيادة الأسنان سوف تعالج الأسد من ألمٍ أصابه، وهي التي كانت ضعيفة تاريخيّاً أمام سطوته، فهي وجبة دائمة على سفرته، وعاجزة في الوقت نفسه عن دفع خطره عنها عندما لا تمتلك أيّاً من أدوات النجاة سوى الهرب، نالت الفرصة أخيراً لنزع سلاحه، والاقتصاص ممن أريقت تحت أسنانه الكثيرُ من دماء أسلافها!
حوّل الكاتب عيادة (الدكتورة ريم) إلى محكمة، حيث يمكن للمظلوم أن يحكم على الظالم عندما يمتلك قوة تحقق له ذلك، واليوم ليس هناك أقوى من سلاح العلم لتحقيق العدل.
النص القصير شديد التركيز، فكل جملة محملة بمعانٍ عديدة، فعندما قالت الغزالة في سخرية لاذعة: «سجل موعد جديد عند الأخوات» هبط التعامل الإداري الصارم هنا على مشهد درامي ثقيل بعد أن أدرك الأسد فقدانه لأداة قوته وافتراسه.
القصة تقول: القوة الطبيعية ليست أبدية، والضحايا حين يتعلمون ويمتلكون أدوات جديدة قد يعالجون جلّاديهم، ويتركونهم بلا أنياب.
يكثف الجبيري رد فعل الأسد في ختامية مؤثرة للنص: «حين أفاق تماماً، زأر من جديد، فظلت العيادة هادئة، وتعاطف معه بعض الموجودين، فأخذوه إلى حديقة الحيوان».
قصة (أم كلثوم)
يقف الجبيري في هذا النص على معادلة الزمن الذي زادت كل وسائل التقنية من استغلاله، يصوغ هذا من خلال حوار قصير بين الجدة والحفيد حول أغنية مشتركة شاهداها لمغنّيين اثنين من الزمن الحالي يؤديانها معاً في مدة خمس دقائق، ما يثير استغراباً صامتاً من الجدة التي أجابت عن تساؤلات الحفيد التي أفسحت لحديث الجدة المجال لتبدي رأيها، لتفصح بجملتها الساخرة: «ما فيهم خير... شفْ أم كلثوم، ما أحلى طلّتها وهيبتها! ساعة وأكثر، تغني وحدها!»، هكذا كان زمن الكبار.
وكأن الكاتب يقول إن الزمن الذي نمسك به الآن يقربنا من كل شيء إلا من رفاهية الوقت، عندما كان الإنسان يملك قبل عقدين فقط ساعة وأكثر ليستمع لأغنية واحدة.
النص اعتمد على سخرية رقيقة، تكشف أن الأجيال لا تختلف فقط في الذائقة، بل في تفسير العالم؛ قصة صغيرة لكنها شديدة اللمعان، تلتقط لحظة إنسانية بين جيلين، وتحوّل اختلاف المصطلحات إلى كوميديا دقيقة تكشف تحولات الذوق الفني، واختلاف فهم الفن، وتعيد التذكير بأن أم كلثوم وحدها تكفي لإسكات أي مقارنة!
إنها مفارقة غريبة بحق، فكل ما قام العقل البشري باكتشافه للتمكّن من الزمن، والوصول بسرعة لكلّ شيء، صار يجد بأن أي موضوع يستغرق منه أكثر من خمس دقائق هو وقت طويل ويمكن اختصاره.
قصة (رجل بين الأمهات)
في هذا النص الساخر جدّاً، الذي يكشف عقدة مجتمعات تطرفت في الانزواء عن بعضها، حيث تبدأ القصة منذ قرار رجل الخروج من مجموعة أمهات دراسية.
كان البطل (الرجلُ) قد انضم خطأ لمجموعة نسائية خاصة بالمدرسة بصفته (أمّاً) لطالبة في الفصل نفسه، وكان صامتاً طوال العام يستفيد من المعلومات العامة التي تخص ابنته، ظل هامشيّاً وغير مرئي وغير فعال حتى غادر المجموعة.
عندما يصبح حضورُ إنسانٍ ما قويّاً بمجرد أن يغادر، هل مرّ بنا هذا الموقف جميعاً في حياتنا؟ ففي المجتمعات المتحفظة، لا يسمح لرجل بالاطلاع على أحاديث نسائية، ولا يسمح لنساء بالتدخل في مجتمع رجالي إلا في حدود ضيقة، ورغم أن المساحة خاصة بالمدرسة، ولكنّ النساء اتّخذن منها مجالاً للحديث بحُريّة في كثير من المجالات الخاصة جدّاً، فهن آمنات في غياب العنصر الذي لطالما وضع لهن القواعد والحدود التي يجب عليهن الالتزام بها، وعندما تكتشف هويته أخيراً يتغير كل شيء، تبدأ الأقنعة التي كانت مجرد استعارات وجمل لمعرّفاتهن على رقم الهاتف للتفعيل التام.
هذه ليست قصة لرجل أُدخل خطأ لمجموعة أمهات، بل قصة عن قوة وجود الآخر، فوجود شاهد كان صامتاً طوال الوقت قد يعبث بمجتمع صغير يتصرف بعفوية.
النص يسخر من تناقض المجتمع الذي يتساهل فيما بينه، ويلتزم بمعايير المجتمع عندما يدرك بأنه مراقب من الآخر.
تبرز المفارقة نهاية النص في تغيير اسم المجموعة إلى (بيننا رجل).
أخيراً؛ تجمع النصوص الثلاثة بين خصائص القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً عبر اعتمادها على الحدث الواحد المكثّف الذي يُبنى حوله المعنى. فكل نص ينطلق من لحظة بسيطة، ورغم بساطة اللحظة، إلا أن الكاتب يحوّلها إلى مساحة للكشف عن مفارقات اجتماعية وسلوكية، وهو ما يمثّل جوهر القصتين القصيرة والقصيرة جداً من حيث التركيز والتكثيف.
تعتمد النصوص أيضاً على عدد محدود جداً من الشخصيات، غالباً شخصية رئيسة محورية تُجاورها شخصية أو أكثر بوظيفة داعمة. هذا العدد القليل من الشخوص يمنح السرد وضوحاً ويُبقي الانتباه على الفكرة الأساسية بدل التشعّب.
أما الزمن فقصير ومباشر، وغالباً لحظة واحدة تُلتقط بدقة. لا يسعى الكاتب إلى امتداد زمني، بل يستخدم زمناً وظيفياً يخدم الفكرة: لحظة كشف، أو مواجهة، أو مفارقة. هذا الاقتصاد في الزمن يعزز طبيعة النصوص ويُظهر تمكّن الكاتب من تحويل موقف عابر إلى دلالة أوسع، سواء كانت اجتماعية أو إنسانية أو ساخرة.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
