في حديثه عن الحداثة السائلة، يرى باومان أن الزمن لم يعد يتيح للإنسان فرصة الترسُّب أو التشكّل العميق؛ لأن الزمن المعاصر كما يصفه يتحرك بإيقاع أسرع من قدرة الإنسان على مواكبته، ومثله الحياة التي غدت متدفقة على نحو يجعل التجارب -ومنها الجمالية- مؤقتة، وقابلة للاستبدال أكثر مما هي قابلة للرسوخ، تماماً كما تُستبدل السلع. وهذا التحول في بنية الزمن قد يعيد تشكيل علاقتنا بكل ما يتطلب بُطئاً وتأملاً، وفي مقدمة ذلك الفن.
فهل تبدلت الذائقة حتى تشظى الجمال وضاق أفق التلقي؟
قرأتُ مؤخراً دراسة نشرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس تشير إلى أن التعرّض المتواصل للمقاطع القصيرة يرهق مناطق الانتباه في الدماغ، ويجعل التجربة الجمالية أقل قدرة على الرسوخ. وقد بدت لي هذه النتيجة انعكاساً مباشراً للحياة المعاصرة التي تتكاثر فيها المتع الآنيَّة، من وسائط تتدفق بإيقاعات عابرة لا تتيح للتجربة أن تنضج أو تستقر، فتغدو خفيفة قابلة للاستهلاك السريع، فاقدةً حقها في البقاء داخل الوجدان.
وما نراه اليوم في سلوك المتلقي ينسجم مع هذا التحوّل؛ لأن المنصّات الرقمية أعادت تشكيل طبيعة الانتباه نفسه، وصاغت نمطاً لا يمنح التجربة وقتها. فالجيل الذي يستجيب لمقطع خاطف هو ذاته الذي يعيش اندماجاً ممتداً مع مسلسلات درامية لعشرات الحلقات. وهذه مفارقة تكشف أن المشكلة ليست في قصر نفس المتلقي، وإنما في نوع الانتباه المصنوع له؛ ذلك الانتباه ينهض سريعاً للانفعال العاطفي، ويضيق حين يتصل الأمر بتلقٍّ يحتاج إلى بناء متدرِّج ورويَّة. وهكذا يغدو الامتداد مرغوباً حين يكون عاطفيّاً، ومتعباً حين يكون فنيّاً.
وكما ينجذب المتلقي إلى المسلسلات الطويلة حين تتصاعد وتيرتها العاطفية، تميل بعض دور النشر إلى تمرير أعمال لم يكتمل نضجها بعد، لما فيها من إغراء عاطفي يمنحها جاذبية سريعة. وفي المقابل، تسعى أحياناً إلى إعادة تشكيل الرواية الفنية لتصبح أكثر قدرة على لفت القارئ، وذلك عبر التدخل في بعض عناصرها، كما أشارت إلى ذلك بعض الروائيات السعوديات حين اعترفنَ بتدخل الناشر في اختيار العناوين، وربما في مسار السرد، لرفع الحضور التسويقي.
ويتسق هذا التحول الواضح مع ما شاهدتهُ قبل أعوام في برنامج حواريٍّ غربيّ، تحدّث فيه فنانون عن ضغوط شركات الإنتاج، وكيف دفعتهم صناعة الموسيقى إلى التفكير في المقطع الأكثر قابلية للترويج قبل التفكير في الأغنية نفسها. وهو ما يصوّر تراجع البناء الموسيقي لصالح المقطع الجاهز للمشاركة، حتى بدا الفن وكأنه مطالب بالتخلي عن جلّ ركائزه؛ ليمنح العالم لحظة مؤقتة قابلة للتداول! ومن هنا تصبح التجربة الجمالية التي تُستهلك على شكل ومضة تجربة متشظية لا تمنح العقل وقتاً لبناء معنى، ولا النفس مساحة لالتقاط الدهشة.
وهكذا غدت المسألة جزءاً من عمليةٍ أوسع لإعادة تشكيل الذائقة، فصناعة الإنتاج بما تفرضه من إيقاعاتٍ متسارعةٍ ومحتوى مجزأ تتجاوز توجيه خيارات المتلقي إلى إعادة تحديد شكل المتعة المعاصرة. وحين تتحول الثقافة إلى ترفيه -كما يشير بوستمان- يفقد الإنسان تدريجياً مهارته في الإصغاء، فتُهمَّش التجارب التي تحتاج بناءً وتأملاً، وينساقُ المتلقي نحو ذائقةٍ تستجيب للقطة السريعة، لا لمسار الرحلة الفنية كاملة. فما يحدث اليوم لا يشير إلى أزمة ذوق، بل إلى انكماش في حضور التجربة الفنية بسبب الذائقة المصنوعة وفق شروط اقتصادية جديدة، فالمتلقي المنهك لم يعد يملك لحظته الكافية للبحث عن مكامن العمق الفني.
ربما لا يستطيع الإنسان تأطير حركة العالم المتسارعة، لكن يمكنه أن يمنح التجربة الجمالية وقتها الطبيعي لتكتمل، فالجمال في جوهره يحتاج إلى من يهبه زمناً كي يستعيد مكانه في جوف النفس ويؤثث مستقرَّه في الذاكرة!
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
