عرب وعالم / السعودية / عكاظ

الخيط الرفيع

أي نظام دولي غايته الحفاظ على استقراره.. وهذا لا يتأتى إلا بالحفاظ على توازنه، الذي بدوره يفرض حساباً دقيقاً لمصادر قوة أطرافه. من أبرز الانتقادات للمدرسة الواقعية، في جميع مراحل تطورها: اعتمادها الكبير على تقديرات متغيرات القوة المادية لقوى أطراف الصراع أو أقطابه الرئيسية.

حتى على مستوى ما يُطلق عليه توازن الرعب النووي، تصر المدرسة الواقعية، على تحري الدقة المادية في حساب توازن القوة بين أطراف النظام الدولي الكبرى، للحفاظ على استقرار نظام الأمم المتحدة. يغيب عن دعاة المدرسة الواقعية: غفلتهم.. وعدم اهتمامهم الجدي بحساب أن الحرب يمكن أن تندلع بالخطأ، فجأة، حتى في حالة تقدم وسائل الاتصال والإنذار المبكر، بين أطراف النظام الدولي الكبرى، طالما أن منطق وعقلانية توازن القوة بين القوى العظمى المادي يتحكم في سلوك أطرافه.

بالإضافة: ليس هناك من ضمانة حقيقية، لتوفر مظلة أمنية لأي قوة دولية أو إقليمية، مهما بلغت ثقتها في إمكانات وقدرات الردع الاستراتيجي لديها. ممكن للحرب أن تندلع فجأة وتطيح بأي قوة دولية أو إقليمية تكون قد أفرطت في ثقتها في إمكانات الردع، التي تمتلكها، وتعتمد عليها احتمالات بقائها والحفاظ على نفوذها الإقليمي والدولي.

شواهد كثيرة، في عهد الأمم المتحدة أثبتت أن الركون، مهما بلغ مداه، على إمكانات الردع الاستراتيجي لأي قوة إقليمية أو دولية، ليس وحده أو في أغلب حالته، يستطيع الحفاظ على استقرار أي ترتيبات أمنية، تفرضها علاقات القوى المادية وحدها. رغم تفوق الولايات المتحدة الاستراتيجي في ميزاني القوى التقليدي والاستراتيجي، لم تتمكن واشنطن من حسم الحرب الكورية (1950- 1953). بينما كان الوضع أكثر سوءاً، في تجربة حرب فيتنام الأمريكية (1961- 1975). بدوره: الاتحاد السوفيتي، فشل فشلاً ذريعاً، في إخضاع أفغانستان البلد الفقير في موارده المادية والقتالية (1979- 1989)، فشلاً امتد للولايات المتحدة، على الساحة الأفغانية، فيما بعد (2001- 2021).

إسرائيل، وهذا مثلاً يتابعه العالم يومياً، فشلت إمكانات الردع التقليدية والاستراتيجية لديها، في حسم حربها على غَزّة.

روسيا الاتحادية، بإمكانات الردع التقليدية والاستراتيجية لديها فشلت أن تحسم حربها ضد أوكرانيا، التي دخلت عامها الرابع.

لكن حرب إسرائيل على غَزّةَ تظل شاهداً تاريخياً على فشل المدرسة الواقعية بكل أشكالها وتطوراتها أن تفسر لنا ما يدور في غَزّةَ من صراع عنيف، لا يعتمد على أي تصور لمنطق وعقلانية ما يسمى لآلية توازن القوى. بل ليس هناك، بين طرفي الصراع ما يوحي بأن ميزان القوى أصلاً موجود بينهما ليفسر سلوكهما القتالي، أو على الأقل سلوك الطرف الأضعف في الصراع. هذا الإصرار المميت لدى طرفي الصراع على الاستمرار في دوامة العنف، وليس هناك في الأفق ما يوحي أن أيّاً من طرفيه قادرٌ على حسم الحرب، مهما بلغ الاختلال في ميزان القوى بينهما.

مهما بلغ جدل عقلانية اللجوء إلى تجربة الحرب، سواء لحسم الصراع بينهما على الأرض.. أو تهيئة الوضع لتسوية سلمية بينهما، فإن تقدير الطرف الأقوى منهما (إسرائيل) الركون لتفوقه في إمكانات الردع لديه، الذي بلغ به الغرور، ليتجاوز القضية الفلسطينية، ليقترب للوهم منه للعقلانية. لم تردع القوة الكاسحة لإسرائيل المقاومة الفلسطينية في غَزّةَ من تجربة خوض الصراع العنيف، مهما كان الثمن. كما لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أيٍّ من أهدافها من الحرب، رغم تفوقها الكاسح في ميزان القوى، سواء على المستوى الاستراتيجي أو السياسي أو الإعلامي، رغم أن 80%؜ من غَزّةَ قد دُمر.. وأكثر من مليوني غزاوي، لم يرفعوا الراية البيضاء بعد!

في المقابل: نجد إسرائيل، على مستوى نظامها السياسي الداخلي وتجربتها الديمقراطية «الفريدة»، في المنطقة، تواجه تحديات حقيقية، داخلياً وخارجياً، تصل إلى مستوى المجازفة بااحتمالات نشوب الحرب الأهلية، وكشف تهافت جدلها السياسي والأخلاقي في تبرير وجودها، أصلاً. هناك انقسامات خطيرة على المستوى السياسي الرسمي والشارع، تطال كل ما كانت إسرائيل تدعيه من تفرد، في نظامها السياسي «الديمقراطي».. وأن جيشها هو الأكثر أخلاقية بين جيوش المنطقة والعالم.. وأنها تدافع عن نفسها وكيانها في خط المواجهة المتقدم لقوى «الحرية والتقدم» وأمن ومصالح الغرب.. وأن كل ما ترتكبه من جرائم ضد الفلسطينيين في هذه الحرب، تبرره مقتضيات الحفاظ على أمنها. كل تلك المزاعم، لا تُغيب حقيقة أن قادتها السياسيين والعسكريين أصبحوا طريدي العدالة، على مستوى العالم.. ويفقدون يومياً مواطئ قدم كانت راسخة في نظامهم السياسي.

المحصلة النهائية هنا: أن المتغيرات المادية التي يمكن قياسها كميّاً، لا يمكن وحدها أن تفسر لنا الخيط الرفيع بين الحرب والحيلولة دون اتخاذ قرار شنها، بل ولا حتى التحكم في حركتها، عندما تنشب.. ولا التمكن من وقفها، متى أرادوا. فاستقرار النظام الدولي، وعلى مستوى الأقاليم المختلفة، لا يمكن الركون إلى متغير القوة المادي وحده لحفظ التوازن بين أطراف أي صراع، لتحقيق الاستقرار، مهما بلغت دقة حساب موازين القوة بين القوى الدولية.

هناك دوماً متغيرات خفية، يصعب قياسها كميّاً، تتحكم في قرار الحرب والإقدام عليها، ليس بالضرورة تكون عقلانية أو يمكن الدفاع عنها، أمنياً وسياسيّاً وأخلاقياً، لكنها موجودة وأحياناً تفرض نفسها بقوة، على أي متغيرات مادية، يمكن قياسها كميّاً، لتفسير الخيط الرفيع، الذي يحكم حركة الصراع بين أطرافه.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا