خميس المزروعي*
أصبح الذكاء الاصطناعي قوة تعمل على تشكيل مستقبل قطاع الطاقة العالمي، وقد انتقل النقاش، اليوم، من التساؤل عن جدوى اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى البحث عن أفضل السبل للاستفادة منه، بفاعلية وكفاءة ومسؤولية. ولم تعد تقنيات الذكاء الاصطناعي ابتكارات بعيدة المنال، بل أصبحت أداة أساسية من شأنها أن تحدث تحولاً جذرياً في كل جوانب سلسلة قيمة الطاقة، بدءاً من الصيانة الاستباقية، وتعزيز كفاءة الطاقة، وصولاً إلى مراقبة الانبعاثات وتوقعات الإنتاج. كما أن التركيز الآن قد تعدى مرحلة التجريب، إلى مرحلة التكامل الاستراتيجي، بما يضمن أن تكون الأنظمة ذكية ومترابطة، ومدعومة بالبيانات، لكي يتمكن القطاع من الحد من الانبعاثات مع الاستمرار في توفير طاقة، آمنة وموثوقة، بأسعار معقولة للعالم بأسره.
يعكس هذا الواقع الجديد تحولاً أوسع في مختلف أنحاء منطقة الخليج، وحول العالم، فقد أصبحت الحكومات، وشركات الطاقة الوطنية، والمؤسسات العالمية العاملة في مجال الطاقة، تنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره ركناً أساسياً لا غنى عنه لدفع عجلة النمو، وتسريع مسار خفض الانبعاثات الكربونية. وتجسد استراتيجية الإمارات للطاقة 2050 هذا التحول، من خلال تضمين تقنيات الذكاء الاصطناعي، ورقمنة البنية التحتية في الخطة الوطنية للتوسع في الطاقة النظيفة، والطاقة النووية، وضمان أمن الطاقة على المدى الطويل، ويعكس تأسيس وزارة للذكاء الاصطناعي مدى أهمية الذكاء الرقمي كعنصر بنيوي أساسي في منظومة التخطيط الوطني. أما السؤال الجوهري الذي يواجه كل العاملين في مجال الطاقة وصناع القرار، هو: كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي على نحو أخلاقي، وبكفاءة عالية، وعلى نطاق واسع لتحقيق نتائج ملموسة.
وتُعد الأسس القوية للبيانات محور هذه المهمة. فكل نقاش يتناول الذكاء الاصطناعي يعود في النهاية إلى حقيقة واحدة: لا يمكن الوصول إلى ذكاء يتسم بالفاعلية والكفاءة من دون بيانات موثوقة، ومنظمة، ومترابطة. وتعاني العديد من المؤسسات لأن بياناتها ما زالت مشتتة عبر أنظمة غير متوافقة أو محتجزة في جيوب معزولة، بينما يتطلب التقدم معايير مفتوحة وقابلة للتشغيل المتبادل، تتيح تدفق المعلومات، بأمان وكفاءة، ما يمكِّن أنظمة الصيانة الاستباقية، وأجهزة مراقبة الانبعاثات، والنماذج الجيولوجية، والمنصات التشغيلية، من التواصل بسلاسة. وعندما يتحقق هذا الترابط، يمكن للقطاع أن ينتقل من انتظار النتائج لاتخاذ القرارات، إلى التعامل بذكاء توصيفي يقدم توصيات باتخاذ الإجراءات الاستباقية، وليس النتائج فحسب. ومن شأن هذا أن يعزز السلامة، والموثوقية، والاستدامة، والكفاءة التشغيلية، عبر سلسلة الطاقة بأكملها.
أما القدرات البشرية فإنها لا تقل أهمية، فالذكاء الاصطناعي لا يحلّ محلّ الذكاء البشري، بل يوسع آفاقه وإمكاناته. ويحتاج المهندسون والمخططون وصناع القرار، بشكل متزايد، إلى الاطمئنان على البيانات والأدوات الرقمية، والجوانب الأخلاقية للتكنولوجيا الناشئة. فليس الهدف هو تحويل القوى العاملة إلى مبرمجين للحاسوب، بل تنمية وتطوير متخصصين يدركون إمكانيات الذكاء الرقمي في خدمة مهمتهم. ويتعيّن على الجامعات، والمعاهد الفنية، وبرامج التدريب المؤسسية، أن تواكب هذه التطورات لدعم هذا التحول. كما يجب على القادة تكريس ثقافة تحتضن الإبداع والابتكار، بدلاً من التخوف من التغيير. وتظهر الدروس المستفادة من قطاعات أخرى أن نجاح التحول الرقمي يتوقف على التطور الموازي في القدرات البشرية، والمتزامن مع تطور التكنولوجيا.
لقد أحرز الذكاء الاصطناعي، بالفعل، مكاسب بارزة في عمليات قطاع الطاقة، فأدوات الصيانة الاستباقية استطاعت أن تقلّص تراكم أعمال الصيانة، وأن تتفادى الأعطال قبل حدوثها. كما أصبحت المراقبة المباشرة والمستمرة للانبعاثات، ممارسة معتادة في كل من الأصول البحرية والبرية، على حد سواء. وكذلك حققت التوربينات التي تعتمد الذكاء الاصطناعي، تحسناً في مستوى الكفاءة، وتخفيضاً ملموساً في الانبعاثات الكربونية. وتدلّ هذه الشواهد على أن الاستخدام الرشيد لتقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحقق تأثيراً بيئياً ومالياً، مباشراً وعميقاً.
وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يسهم في خفض الانبعاثات، إلا أنه يطرح تحدياً جديداً، فالطاقة المطلوبة لتدريب وتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة قد تكون هائلة، ما يثير القلق بشأن البصمة الكربونية للبِنية التحتية الرقمية نفسها، ويستدعي هذا التناقض الناشئ وضع استراتيجيات دقيقة. فلذلك، يجب على القطاع أن يتعامل مع النماذج الذكية التي تتسم بالكفاءة، والمصممة لإنجاز مهمات صناعية محدّدة، بدلاً من الأنظمة العامة الضخمة التي تستهلك موارد غير ضرورية. كما يجب أن تضمن نظم الحوكمة المسؤولة إعطاء الأولوية لخصوصية البيانات والشفافية والمسؤولية البيئية، في كل مرحلة من مراحل تطوير الذكاء الاصطناعي، والتعامل معه.
وتتمثل عقبة جوهرية أخرى في صعوبة توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي ليتجاوز حدود المشاريع التجريبية، حيث تفشل العديد من المبادرات، لأن الشركات تسعى إلى اعتماد الذكاء الاصطناعي من أجل المظهر الخارجي، أو تحت وطأة الضغوط الداخلية، بدلاً من أن يكون ذلك من أجل تحقيق تغيير حقيقي في أعمالها. ويتوقف النجاح على وضوح الهدف، والمواءمة مع الاحتياجات التشغيلية، والالتزام بتقديم قيمة ملموسة.
كما يفتح الذكاء الاصطناعي الباب أمام قدر أكبر من الشفافية عبر سلاسل الإمداد العالمية، إذ يعود جزء كبير من جهود كبح الانبعاثات عبر سلسلة القيمة، إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تفتقر إلى القدرة على قياس أدائها البيئي، أو الإفصاح عنه. ويمكن للأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تغيّر هذا الواقع من خلال تمكين الموردين من تقديم بيانات الاستدامة بشكل مباشر، ما يُمكِّن الشركات من فهم بصمتها الحقيقية عبر سلسلة الإمداد بأكملها. وعندما يصبح الإبلاغ أسهل، وأكثر دقة، تتحول الاستدامة من التزام بالامتثال إلى ميزة استراتيجية.
ولكن من ناحية أخرى، يشكل نمو الذكاء الاصطناعي تحديات متزايدة في مجال الأمن السيبراني. فمع تزايد ترابط الأنظمة التشغيلية، وتوسع أحجام البيانات، تتكشف نقاط الضعف، لذلك، فإن البيانات المصنفة بشكل خاطئ، أو المدخلات التي تم التلاعب بها، أو الهجمات الرقمية الموجهة، يمكن أن تؤدي إلى تشويه الرؤى، أو إلى تعطيل العمليات الأساسية. لذا، يجب التعامل مع الأمن السيبراني باعتباره عنصراً أساسياً في كل استراتيجية للذكاء الاصطناعي. كما أن التصنيف الدقيق والموثوق للبيانات، والتحقق المستمر من صحة النماذج، والمراقبة الدائمة للتهديدات، هي من أهم المعطيات للحفاظ على سلامة العمليات، وتعزيز ثقة الجمهور.
نخلص مما سبق إلى أن إمكانات الذكاء الاصطناعي لإحداث التحوّل في قطاع الطاقة لا يمكن إنكارها، وأن نجاح ذلك يعتمد على التصميم المدروس، وأخلاقية الحوكمة، والقدرات البشرية المتينة، ووضوح الرؤية والأهداف. وعندما يتكامل الذكاء الاصطناعي مع الانضباط والرؤية الاستراتيجية، لن يقتصر دوره على دعم منظومة الطاقة الحالية، فحسب، بل سيسهم في جعل الطاقة في المستقبل أكثر نظافة، وأكثر مرونة واستدامة للأجيال المقبلة. ومع ذلك، ما زالت كلفة التقاعس عن مواكبة هذه التطورات في ارتفاع مستمر.
*الرئيس التنفيذي لمؤسسة نفط الشارقة الوطنية (SNOC)
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
